نكبة فلسطين... 72 عاماً وتهديدات الاحتلال مستمرة

نكبة فلسطين... 72 عاماً وتهديدات الاحتلال مستمرة

15 مايو 2020
على أمل العودة... (سعيد الخطيب/ فرانس برس)
+ الخط -

في عام 1948، كانت النكبة. في كلّ عام، مع إحياء ذكراها، يستعيد الفلسطينيون انتهاكات الاحتلال منذ ذلك الحين. هذا العام، تحلّ الذكرى وسط مخاوف جديدة يعبّر عنها أهل البلاد في الضفة الغربية المحتلة.

اثنان وسبعون عاماً والشعب الفلسطيني يعيش نكبات متواصلة، تخللتها انتفاضات ومجازر وسلب للأراضي وتهجير وطرد، واليوم يضيّق الاحتلال الإسرائيلي أكثر على الفلسطيني في ما تبقّى له من أرض إذ يسعى إلى ضمّ أجزاء من الضفة الغربية، وهو ما يمثّل نكبة جديدة تستهدف فلسطين.

في مخيّم الفارعة الواقع جنوبي طوباس في شمال الضفة الغربية المحتلة، لا تخلو جلسات خالد منصور من سرد أحداث النكبة، كأنّه عايشها لحظة بلحظة، على الرغم من أنّه ولد بعد أعوام عدّة من عام 1948. يقول منصور، الذي تعود أصوله إلى قرية أم الزينات القريبة من مدينة حيفا، لـ"العربي الجديد"، إنّه "منذ النكبة وإقامة دولة الاحتلال على الجزء الأكبر من فلسطين التاريخية قبل 72 عاماً، تتلاحق نكباتنا. خسرنا الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري، ومع هذا لم يجرؤ أحد على التنازل عن حقّ العودة، هذا الحقّ المقدّس الذي نزرعه في أبنائنا منذ الصغر فيكبر معهم".

ويُعَد منصور من قيادات العمل الجماهيري على مستوى الضفة الغربية، فهو لا يفوّت فعالية مناهضة للاحتلال الإسرائيلي تمرّ من دون أن يشارك فيها، ويصوغ العبارات الرنانة التي يردّدها خلفه المشاركون بالتحرّكات. ويشير إلى أنّ "أحداً لا ينكر أنّنا نعيش واقعاً صعباً، تحديداً في المخيّمات، بعدما قلّصت وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) خدماتها بشكل غير مسبوق، بحجّة نقص الدعم المالي الذي يصلها، الأمر الذي انعكس بشكل ملموس على حياتنا. تُضاف إلى ذلك قضايا كثيرة سياسية واجتماعية نتأثّر بها، وقبل كلّ شيء ممارسات الاحتلال على الأرض. فقد قضمت المستوطنات أراضينا وحاصرت مدننا وأريافنا وهي تزدهر وتتوسع فيما نحن محاصرون ومخنوقون، إلى جانب عمليات القتل والاعتقال والهدم شبه اليومية التي ينفّذها جيش الاحتلال. هذه العوامل كلّها تركت أثراً بالغاً في اللاجئين، وسط مخاوف حقيقية من تأثيراتها على قضيّة اللجوء وحق العودة".

في مخيّم بلاطة الواقع شرقي نابلس في شمال الضفة الغربية المحتلة، وهو أحد أكبر مخيّمات الضفة، نصب رائد الخطيب، وهو من مركز يافا الثقافي، ومعه مجموعة من الشبّان والمتطوعين، مجسّماً لمفتاح العودة عند مدخل المخيّم الرئيس إحياء لذكرى النكبة الثانية والسبعين. يقول الخطيب لـ"العربي الجديد": "أنا من الجيل الثالث للنكبة، ولدت في سبعينيات القرن الماضي وعاصرت كثيرين عاشوا مأساة النكبة، واستمعت منهم إلى أدقّ تفاصيلها. من جهته، حدّثنا جدّي كثيراً عن مجازر العصابات الصهيونية التي كانت مدعومة من الاحتلال البريطاني، وكيف قتلت النساء والأطفال وأحرقت البيوت بمن فيها، وعن الأيام والأشهر العصيبة التي عاشوها بعدما خرجوا من قراهم هائمين على وجوههم وتنقّلهم من مكان إلى آخر حتى استقرّت بهم الحال في مخيّم بلاطة".

ولا ينسى الخطيب اللحظات الأخيرة من حياة جدّه عندما جمع أولاده وأحفاده وهو على سرير الموت، موصياً إيّاهم بالحفاظ على مفتاح بيتهم وعدم التنازل عن حقوقهم مهما كان الثمن. ويؤكد أنّ "هذا المشهد تماماً كتلك التي تصوّرها المسلسلات والأفلام، لكنّني عشته لحظة بلحظة حتى فاضت روحه. هو ترك أمانة ثقيلة حملناها جميعنا ولن نفرّط بها أبداً".

"هذا وطني" (عصام الريماوي/ الأناضول)

في مخيّم جنين الواقع في شمال الضفة الغربية المحتلة، أنهت الناشطة الشابة نادية صبّاح أخيراً تصوير سلسلة مقابلات مع كبار في السنّ من لاجئي المخيّم. هؤلاء سردوا رواياتهم حول النكبة وذكرياتهم في تلك الأيام الصعبة، مؤكّدين تمسكّهم حتى النفس الأخير بحقّهم في العودة إلى مدنهم وقراهم التي هُجّروا منها. وتقول صبّاح لـ"العربي الجديد"، إنّ "توثيق تلك الروايات والشواهد جزء من دوري كلاجئة من الجيل الحديث لإثبات الرواية الفلسطينية، والأهمّ للردّ على المقولة التي يروّج لها الاحتلال وهي أنّ الكبار يموتون والصغار ينسون". تضيف صبّاح، التي تتابع دراستها الجامعية في الإعلام: "ترعرعت على قصص النكبة والتشريد، لذلك درست الصحافة حتى أقوم بواجبي تجاه مقاومة مشاريع تصفية حقوق اللاجئين"، مؤكدة أنّ "المهمّة ليست سهلة، فشباب المخيّمات اليوم ليسوا جميعاً بالمستوى ذاته من إدراك خطورة ما نعيشه".

وتشاركها الرأي والدتها مريم عامر، التي تقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "واجب الأمهات والآباء المهم جداً في هذه الفترة هو زرع حبّ الوطن في الأبناء وتعريفهم بما يجري على الساحة السياسية من مستجدات تتهدد القضية الفلسطينية برمّتها". تضيف عامر، التي تحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية حول قضايا اللاجئين، أنّ "الظروف الاجتماعية التي تمرّ بها المخيّمات تحتّم على كلّ المسؤولين والأحزاب ضرورة إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والمعيشية، فالبطالة في المخيّمات مرتفعة جداً، وثمّة من يعيش حتى اليوم في بيوت جدرانها من الطوب وأسقفها من الزينكو (الصفيح)، لا تقي سكانها من برد الشتاء ولا حرّ الصيف". وترى عامر أنّ "الشعب الفلسطيني لن يعدم وسيلة لتذكير العالم بمعاناته المستمرة منذ أكثر من سبعة عقود. صحيح أنّنا لا نشهد هذا العام مهرجانات وفعاليات جماهيرية بمناسبة ذكرى النكبة نظراً إلى حساسية المرحلة في ظلّ أزمة كورونا، لكنّني متأكدة من أنّ الشعلة ستبقى متّقدة في وجه الاحتلال وأعوانه حتى نيل الحرية وعودة المهجّرين واللاجئين إلى بيوتهم منتصرين".

الذكرى باقية... وكذلك مفتاح البيت (عصام الريماوي/ الأناضول)

تثير محاولات الاحتلال الإسرائيلي لضمّ أجزاء من الضفة الغربية المحتلة إلى مستوطناته في الفترة المقبلة مخاوف الفلسطينيين من نكبة جديدة. لكنّ منصور يؤمن بأنّ "الأجيال الفلسطينية المتلاحقة حملت الهمّ الوطني بجدارة، وأبقت قضية اللجوء وحقّ العودة حيّة في الأذهان. واليوم، تقع على عاتقها مسؤولية التصدي لكلّ مخططات الاحتلال الرامية إلى ضمّ الضفة الغربية وما ستلحقه من نكبة جديدة". ويشدّد منصور على أنّ "النكبة الجديدة لن تكون بحقّ اللاجئين الفلسطينيين فحسب، بل بحقّ كلّ الشعب الفلسطيني الذي سيجد نفسه مشتتاً من جديد في مختلف دول العالم"، مؤكداً أنّ "الطفل الذي يعيش في أزقّة المخيّم يدرك ما أقوله، وهو لن يسمح بأن تتكرّر مأساة آبائه وأجداده مهما كان الثمن. وتبقى المخيّمات مجرّد محطة انتظار حتى العودة الحتمية".

أمّا الخطيب، فيشدّد على أنّ "المرحلة الحاليّة خطرة جداً، إذ إنّ التهديدات بضمّ المستوطنات والأغوار وتطبيق صفقة القرن تعني أنّ الشعب الفلسطيني كله مهدّد بتكرار مأساة النكبة واللجوء من جديد". يضيف أنّ "من عاش المعاناة يدرك خطورة ما يُحاك أكثر من غيره، ومن بقي من كبار السنّ في المخيّم يؤكّد أنّ هذه الأيام تشبه كثيراً تلك التي سبقت النكبة، لكنّني متأكد أنّ هذا الجيل واعٍ لهذه المؤامرة ولن يسمح بتمريرها".



والاحتلال الإسرائيلي لم يترك الفلسطينيين بحالهم منذ النكبة وضيّق عليهم بأطماعه حتى باتوا مستهدفين بصورة متواصلة. وعن احتمال ضمّ الاحتلال الضفة الغربية، تقول مريم محمود، التي تعود أصولها إلى قرية المالحة المهجّرة، قضاء القدس، والتي تقطن في مخيّم العروب الواقع شمالي الخليل في جنوب الضفة الغربية المحتلة، لـ"العربي الجديد"، إنّ "ما باليد حيلة. نحن لا نملك الخيار وفي حيرة من أمرنا". تضيف أنّه "بعدما استولت إسرائيل على الأراضي المحتلة في عام 1948، صار كلّ ما يجري متوقعاً. كلّ شيء مخطّط له. نحن نرفض ضمّ الضفة، لكنّنا لا نستطيع إلا إبداء الرأي".

من جهته، يقول يوسف عدوي، من قرية زكريا المهجّرة في قضاء الخليل، والذي يقطن في مخيّم الدهيشة الواقع جنوبي بيت لحم في جنوب الضفة الغربية المحتلة، لـ"العربي الجديد"، إنّه "لن تتغيّر حالنا عند ضمّ الضفة الغربية، سواء أكانت تحكمنا السلطة الفلسطينية أم حكومة الاحتلال. فنحن مهجّرون، إذاً في الأساس منكوبون ولاجئون، والحلّ بالنسبة إلينا لن يكون إلا بالعودة إلى أرضنا الأصلية".

في الإطار نفسه، يقول نصر حامد، وهو من مدينة رام الله، وسط الضفة الغربية المحتلة، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الاحتلال سيرحّل الفلسطينيين البدو في الأغوار ولن تبقى لأيّ منهم خيمة واحدة، وسيسطو المستوطنون في الأغوار على الثروة الحيوانية للمزارعين ورعاة الأغنام الذين هم مُرحّلين أصلاً (في إشارة إلى مسألة ترحيل البدو بشكل مستمرّ في الأغوار بحجة المناورات والتدريبات العسكرية لجيش الاحتلال)". يُضيف حامد أنّ "لا شيء يمنع دولة الاحتلال من اجتياح كلّ مدن الضفة الغربية الآن. لن يحمينا إلا الله، فليس لدينا حليف دولي مثل الولايات المتحدة الأميركية التي تقف إلى جانب إسرائيل، والرئيس الفلسطيني محمود عباس ليس بيده شيء".

"... إلى حيفا" (عباس مومني/ فرانس برس)

في مخيّم الجلزون الواقع إلى الشمال من مدينتَي رام الله والبيرة، في وسط الضفة الغربية المحتلة، تعلو نبرة محمود مخلوف غضباً عند سؤاله عن رأيه بخطوة محتملة لضمّ الضفة الغربية إلى دولة الاحتلال، ليصير حكم الإسرائيليين مباشراً على حياة الفلسطينيين وشؤونهم اليومية وليس السياسية فقط. ويقول مخلوف لـ"العربي الجديد": "نحن نرفض خطوة ضمّ الضفة الغربية بشكلٍ مطلق، نحن وآباؤنا وأجدادنا. وفي حال تنفيذ الضمّ فعلياً، فإنّ الاحتلال سيُحكم قبضته علينا أكثر وسيُمعن في القتل والتنكيل بنا". يضيف أنّ "مستوطنة بيت إيل الإسرائيلية أقيمت بالقرب من مخيّم الجلزون، وأنا كفلسطيني أرفض التعايش مع سكانها حتى لو كان ما يفصل بيننا مجرّد شارع"، متسائلاً عن "الشكل والآلية التي سيطبق من خلالهما الضمّ في حال حدوثه".

أمّا أيمن أبو سيف، وهو من بلدة السموع في جنوب الخليل، جنوبي الضفة الغربية المحتلة، فيقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "ضمّ الضفة الغربية يعني أنّ الفلسطينيين سيصيرون تحت حكم إسرائيل بصورة مباشرة، ولن يكون أيّ أمر للسلطة الفلسطينية. وهكذا سندفع الضرائب لدولة الاحتلال وسنتصرّف وفق إرادتها. لكنّنا لا نقبل بأن يحكمنا الاحتلال، ولن تجدوا فلسطينياً واحداً يقبل بالأمر". يضيف: "صحيح أنّنا نعيش محاصرين وتحت الاحتلال في الضفة الغربية، لكنّنا نشعر بالحرية في حياتنا في ظلّ وجود حكم فلسطيني. لا شكّ في أنّ الحال ستختلف لو كان الحكم المباشر للاحتلال. فأنا سائق مركبة عمومية، بالتالي ستُقيَّد حركتي في أثناء عملي في الشوارع والطرقات في حال ضمّ الضفة الغربية".

في المقابل، يرى أحد المواطنين الفلسطينيين، رافضاً الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد": "علينا كفلسطينيين قبل رفض خطوة ضمّ الضفة الغربية لدولة الاحتلال، أن نفكّر بما فعلته لنا السلطة الفلسطينية".



وضمّ الضفة الغربية ليس جديداً على دولة الاحتلال، لا بل يتوافق مع كلّ المخططات الإسرائيلية على الأرض منذ احتلالها الضفة الغربية في عام 1967. ويوضح الخبير في شؤون الاستيطان وليد أبو محسن، لـ"العربي الجديد"، أنّ "من الأمثلة الدالة على سعي حكومة الاحتلال إلى ضمّ الضفة الغربية بشكلٍ كامل منذ احتلالها في عام 1967، هو أنّ حكومة ألون في تلك الفترة أنشأت طريق ألون للربط بين مدن وقرى فلسطينية في القدس ورام الله وبين مدن في الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1948، وهو شبيه بالطرقات الالتفافية في الضفة الغربية حالياً، التي تربط المستوطنات بمدن الضفة والداخل الفلسطيني المحتل". ويتابع أبو محسن أنّ "ضم الضفة الغربية يحصل تدريجياً، كضمّ الأغوار، وهو الأمر الذي وعد به رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، علماً أنّ مساحة الأغوار تبلغ نحو 1500 كيلومتر مربع وتشكّل نحو ربع مساحة الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967، وهي الضفة الغربية وقطاع غزة. كذلك فإنّ إعلان وزراء الحكومات المختلفة في دولة الاحتلال يأتي متوائماً مع خطوة الضمّ المحتملة، كتدعيم البنية التحتية للمستوطنات".