نقد تسمية "النكبة"
سُمّي غزو فلسطين واحتلالها وتشريد أهلها "نكبة"، وهذه تسمية لا تفتح، بحد ذاتها، باباً للاستطراد، مثلما تفتحه التسمية التي شاعت في مستهل الخمسينيات "اغتصاب فلسطين". ربما يخترل الانتكاب التوصيف الشامل لحجم الأذى الذي وقع على الشعب الفلسطيني. لكن، في تسمية حجم الأذى بـ"النكبة"، تجهيل لفاعلين معلومين، وكأنها من صنف الأعاصير التي لا يُشتكى صانعوها، ولا يلاحَقون. ربما للمرة الأولى، يعترض فلسطيني على التسمية، ويراها رزّية نفتتح بها الحديث عن سائر الرزايا.
وليس الاعتراض هنا، يتعلق بقدرية النكبات وحسب، من حيث كونها وقائعَ أقدار أوقعتها، في السياق الموضوعي للحياة، قوة علوية هي رب العالمين عند المؤمنين. فهذا هو منحى التعليل، عندما تعصف بالناس نكبات الزلازل، ولا يكون في وسع المنكوب سوى الرضوخ للأقدار، وإجزال الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه!
لا خلاف على كون التسمية المختزلة، كعنوان، هي مُفتتح الرواية التي تدلك كل صفحة منها على أسماء فاعلين، وأدوار خائنين. وربما لا اختلاف على أن التسمية أطلقت ببراءة، أو بغير إحاطةٍ بالأبعاد النفسية للتسميات التاريخية. ونقدم، هنا، مقاربةً لما يمكن افتراضه من أسباب هذا التسكين، في تسمية عمل بربري، جرى فيه احتلال أرضنا، والاستحواذ على كل ما عليها من بيوت وحقول ودكاكين وجوامع وكنائس ومعامل ومدارس ومتنزّهات وخلافه، وتشتيت شعبنا في أربع جهات الدنيا اللئيمة. يمكن القول في هذه المقاربة، إن جريان التسمية وتكريسها، لا علاقة لهما بنوايا مُطلقها الأول، ولا علاقة للأمرين بالسياسة، مع التسليم بعلاقتهما بالوجدان!
المُخترع الأول، هو شاعر مصري بديع، من أصول شركسيّة، اسمه أحمد مُحرّم (1877 ـ 1945)، لم يكن أصلاً، يتحدث عن بانوراما المشهد بعد انتهاب فلسطين. فقد نشر قصيدته في العام 1933، أي قبل ما نسميه "النكبة" بخمسة عشر عاماً، وضمّنها إحساسه بالهول ممّا يجري في بلادنا: يا فلسطين اصطَليها نكبةً.. هاجها للقوم عهدٌ مضطرمْ/ واشهديه في حماهم مأتماً.. لو رعوا في الضعف حقاً لم يَقُمْ/ واشربي كأسك ممّا عصروا.. من زُعافٍ جائلٍ في كل فمْ/ أذكري يومك في أفيائهم.. ودّعي الأمس فلا يُغني الندم/ الجهاد الحرُّ يقضي حقَّه.. سؤددُ العُرْبِ ويحميه العَلَمْ/ لا تنامي للعوادي وادأبي.. واذهبي طامحةً في المُزدَحَمْ/ ليس بالمُدرك حقاً.. نامَ والأحداث يقظى لم تنمْ!
نشر الشاعر أحمد محرم قصيدته في جريدة "البلاغ" المصرية التي أصدرها، في أوائل العشرينيات، عبد القادر حمزة، أحد أعلام الفكر الوطني في مصر. ومن المفارقات، أن محرم، عندما اختار تسمية "النكبة" لوصف ما يحدث في فلسطين، قبل أن تنكبها الصهيونية، ومعها القوى الاستعمارية وأذنابها من الطرابيش العربية، أوقع نفسه في التكرار بحُسن نية، لأنه نشر قبل ذلك قصيدة بعنوان "نكبة البرامكة"، تصف المقتلة والتشريد اللذيْن اقترفهما هارون الرشيد في حق البرامكة، ذوي الفضل عليه، وقضى على مركز قوتهم ونفوذهم في الدولة العباسية، إبان حكمه. ولا مجال هنا، للإسقاط على موضوع "النكبة" فينا، بما يتشابه من مفارقات وأسباب تلك التي أصابت البرامكة. فبعدما وقع لنا ما وقع، التقط عارف العارف التسمية من القصيدة، فأطلقها على مجمل عملية الغزو الفاحش والانتهاب، وأصدر كتابه "النكبة والفردوس المفقود"، وهو ما ستأتي الإشارة إليه.
الشاعر السبّاق إلى التنكيب في وصف حدث الغزو التاريخي لفلسطين وتواطؤاته، تحمّس لإنصاف البرامكة، وهم من أصل فارسي، وكان جدهم مجوسياً، بينما هو صاحب ملحمة شعريةٍ من ثلاثة آلاف بيت، باسم "الإلياذة الإسلامية"، يمجّد فيها بطولات التاريخ الإسلامي. كان الشاعر رقيقاً تقيّاً، منصفاً في انحيازه للضحايا ضد فعل استبدادي. أُمُّ كبير الضحايا أرضعت هارون الرشيد، مع ابنها الذي بات نديمه وصديقه ومؤنسه الفصيح ووزيره الأثير في ما بعد، جعفر. تماماً مثلما أرضع العرب طفولة الوجود البريطاني في بلادنا، وتفاصح شعراؤنا في مديحه. كان نفوذ البَرْمك في الدولة العباسية طبيعياً بحكم التداخل والمآثر، لكن هارون الرشيد حرّم ما حلّله الله من الحق. فاضت محبته جعفر، حتى لم يعد يحتمل فراقه، وهو، في الوقت نفسه، شديد الإعجاب بشقيقته العباسة، ولا يقوى على مفارقتها. فكيف يجمع الاثنين معاً في مجلسه، فيما يخالف تقاليد القصر؟ اضطر إلى عقد قرانهما، مشترطاً أن يكون نكاح كلام مع امتناع عن المضاجعة. تُتاح المجالسة وكفى.
وحسب الطبري، قال هارون "لصاحبه جعفر: سأزوجك إياها ليحلّ لكما أن تجتمعا، ولك أن تنظر كيفما تشاء، ولا اجتماع بدوني". غابت عنه حكاية الحب واحتمالات الجموح واشتعالات الرغبة في "ممارسة" الحق البهيج. طمأنه كون أمّ جعفر تقدم لابنها مليحة عذراء من الجواري في ليلة كل جمعة، ولا حاجة عنده لنكاح العباسة، على الرغم من ملاحتها. لكن الأخيرة رغبت في امتطاءٍ عاجل، يُحيل الحب إلى كيمياء شاملة؛ فلجأت إلى حيلة إحلال نفسها محل عذراء الجمعة المقبلة!
كانت الأمور تفاقمت على صعيد المشهد العام، واستحكمت حلقات الدسائس التي حيكت للبرامكة، فجاء فضّ البكارة، لكي يفتح أفقاً للسيف، وإلى جنون التشريد والاستلاب. كان الفاعل، بالطبع، معلوماً، والضالعون، من أهل الدسيسة والتواطؤ والخيانة كانوا معلومين. وقعت "نكبة"، وهذا هو اسمها، طالما أن خاتمة الاستلاب جاءت بسلب إرادة الضحايا في استرجاع أي حق!
التقط المؤرخ والسياسي الفلسطيني، عارف العارف، تسمية "النكبة" التي أطلقها الشاعر أحمد محرّم، وجعلها بادئة عنوان عمله التوثيقي في خمسة مجلدات، أصدرها في مستهلّ العام 1956، أي بعدما غادر وظيفته الأخيرة رئيساً لبلدية القدس الشرقية. فقد ظلّت حاضرةً في ذهنه تسمية "النكبة" التي أطلقها الشاعر مُحرّم في السنة نفسها التي تقلَّد فيها المؤرخ أولى وظائفه، قائم مقام لبئر السبع، في العام 1933 تحت سلطة الانتداب البريطاني. فعلى الرغم من أن ذلك لا ينتقص من عاطفته الوطنية، إلا أن حَذَرَ الموظف الذي كانَهُ، حيال وضع نقاط الوقائع على حروف السياسات الرسمية، جعله يتجنّب تعليل، أو تفسير، حدث، أو تقديم أية قراءة لموقف أي نظام عربي. هنا، ليس أسلم من تسمية "النكبة"، فقد عُرف كل شيء عن معسكر المنكوبين، من دون أن يُعرف الحد الأدنى من أفاعيل الضالعين من الأشقاء الناكبين!