نفط الشمال السوري.. حصان طروادة

نفط الشمال السوري.. حصان طروادة

21 نوفمبر 2019
+ الخط -
تروي الأسطورة أن الإغريق، بعد حصارهم طروادة عشر سنوات، ابتدعوا حيلة جديدة، هي حصانٍ خشبيٍ ضخم أجوف مليء بالمحاربين، أما باقي الجيش فكان مختبئاً في مكان قريب، وقبل الطرواديون الحصان أنه عرض سلام. وفي ذروة احتفالهم برفع الحصار، وفي حالٍ من السكر، خرج الإغريق من الحصان داخل المدينة، ففتح المحاربون الإغريق بوابات المدينة للسماح لباقي الجيش بدخولها، فنهبت المدينة بلا رحمة، وقتل كل الرجال، وأخذ كل النساء والأطفال عبيدا. 
وفي حالة شمال شرق سورية، ثمّة ما يشبه تلك الحادثة، فالمنطقة التي مرّت بمخاضاتٍ عسيرة، بدءاً من تحالف حزب الاتحاد الديمقراطي، وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب، مع الحكومة السورية مطلع الحرب السورية عام 2011، بغية ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب الحكومة السورية من هذه المنطقة، والتركيز على مناطق الاحتجاج الرئيسية في حمص وإدلب ودرعا وباقي المدن السورية التي شهدت اشتباكاتٍ عنيفةً مع الجيش السوري، مروراً بالتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، حيث الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عقب سيطرة التنظيم على مساحات واسعة من سورية والعراق، وسارت معادلة العلاقة الكُردية مع دمشق وفق قاعدة التناسب العكسي مع العلاقة بواشنطن، حتى وصلت، في بعض المراحل، إلى الصدام العسكري بين الجانبين، كما في اشتباكات القامشلي أواخر العام 2018 وكذلك في الحسكة عام 2016.
راهن كُرد سورية على الولايات المتحدة إلى درجة أن واشنطن أصبحت الحليف الأوحد لحزب الاتحاد الديمقراطي، فالعلاقة مع تركيا هي في أسوأ أحوالها، وكذلك فإن العلاقة مع إقليم كُردستان العراق هي في أدنى مستوياتها، ناهيك عن التوتر في العلاقة مع دمشق، فضلاً عن العلاقة السيئة مع المعارضة السورية.
هذه الأسباب مجتمعة جعلت وضع المنطقة على صفيح ساخن، كلما هددت تركيا باجتياحها، وهي 
التي ما انفكّت تطلق عمليات عسكرية بمساندة فصائل سورية موالية لها، بدأتها بـ "درع الفرات" أواخر العام 2016، وسيطرت بموجبها على مدن جرابلس والباب وإعزاز، والثانية باسم "غصن الزيتون"، وسيطرت من خلالها على منطقة عفرين، ثالث أضلاع الفيدرالية الكُردية الموءودة عند ولادتها ربيع العام 2016، وكانت آخرها عملية "نبع السلام"، وأنشأت من خلالها "منطقة آمنة" ممتدة بين مدينتي تل أبيض ورأس العين، وتسعى من خلالها إلى القضاء نهائيا على الإدارة الذاتية المعلنة منذ مطلع العام 2014.
كان موقف الولايات المتحدة مريباً على الدوام، فقد كانت ترسل باستمرار ضباطاً من أرفع المستويات للقاء السياسيين والعسكريين الكُرد، وتقدّم كل أشكال الدعم العسكري لقوات سورية الديمقراطية (قسد)، من دون أن يرافقه أي دعم سياسي للإدارة الذاتية، لكن ذلك لم يضعف من المراهنة الكُردية على تغير في الموقف الأميركي، على الرغم من وضوحه؛ فالرئيس ترامب أعلن في ربيع العام 2018 أنه ينوي سحب قواته من سورية لغياب أي أهمية استراتيجية لها في الميزان الأميركي، وهذا ما حدا بمجلس سورية الديمقراطية (مسد) إلى الإسراع بعقد جولة مفاوضات وصفت بالناجحة مع الحكومة السورية، ولكن التراجع الأميركي عن الانسحاب السريع حينها جعل الموقف الكُردي أكثر تشدّداً، بالإضافة إلى التصلب الحكومي السوري المعتاد منذ عقود تجاه الحقوق الكُردية.
كان الإعلان الأميركي الثاني عن الانسحاب في أواخر العام 2018 وتبعته سلسلة استقالات لكبار ضباط الجيش الأميركي. ولكن الرهان الكُردي بقي على حاله، فلم يبحثوا حينها عن أي طريقة للخروج من العباءة الأميركية، والبحث عن حلول أكثر عملانية مقابل الرهان على الموقف الأميركي المتذبذب، وأعطى التأجيل الأميركي للانسحاب السريع حينها دفعاً أكبر لرؤية بعض الساسة الكُرد بأن الولايات المتحدة ستبقى إلى أمد طويل في المنطقة، ودعم مشروع سياسي لا مركزي في منطقة شرق الفرات.
كان موقف واشنطن ما قبل عملية "نبع السلام" هو الأكثر ريبة، فقد رعت اتفاقاً بين تركيا وقوات سورية الديمقراطية قضى بانسحاب قوات الأخيرة مسافة بين 5 و14 كلم من 
المنطقة الممتدة بين تل أبيض ورأس العين، وتسيير دوريات أميركية تركية مشتركة مقابل نزع فتيل التوتر الكُردي التركي. ولكن وبعد تسيير دوريتين وقع المحظور، عبر سماح الولايات المتحدة لحليفتها الأطلسية بشن عملية عسكريةٍ امتدت، في مرحلتها الأولية، إلى تلك المنطقة الآمنة، وأنذرت بتوسيعها لتشمل كامل منطقة النفوذ الأميركي في شرق الفرات، ولكن الغريب أن الرهان الكُردي بقي كذلك على الموقف الأميركي، وليس أدل على ذلك من الزيارة طويلة الأمد لرئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سورية الديمقراطية إلى واشنطن، بغية التأثير على الموقف الأميركي، وكذلك المواقف المعلنة من "قسد" و"مسد" بطلب بقاء القوات الأميركية لتحقيق التوازن مقابل النفوذ الروسي، وكذلك عدم السعي الجدي إلى إقامة حوار مع الحكومة السورية، على الرغم من المواقف الروسية الداعية إلى رعاية مفاوضات بين الطرفين، وبضمانة من موسكو.
الموقف الأميركي الأخير بإبقاء حوالى 600 من عسكرييها في المناطق القريبة من حقول النفط السوري هو الأغرب، والأغرب منه تأييد هذه الخطوة التي تنذر بمخاطر كبيرة أبسطها أن البقاء الأميركي هذا غير المستند إلى أي أرضية قانونية دولية يعني ما يعنيه أن واشنطن تسعى إلى مقايضة وجودها مقابل ملفات قد يكون تحجيم الدور الإيراني في سورية أولها، وكذلك فرض شركات نفط أميركية لاستخراج النفط السورية، وربما، بدرجة أقل، مساهمة بعض الشركات الأميركية لإعادة إعمار سورية.
في كل الأحوال، يبدو قرار البقاء الأميركي هذا بمثابة حصان طروادة الذي من شأنه أن يقضي بشكل كامل على أي فرصةٍ للتسوية المرتقبة لقضية شرق الفرات، ذات التعقيدات العرقية، وفي مقدمها القضية الكُردية السورية. وعليه، ينبئ الرهان عليها بمخاطر جمّة، لا يفيد فيها البكاء على مجد الأندلس الزائل.
2C20BE7F-3960-4914-BCD2-80D0B345F564
2C20BE7F-3960-4914-BCD2-80D0B345F564
آلان حسن

كاتب سوري، ينشر في عدد من وسائل الإعلام العربيّة والدوليّة

آلان حسن