نفض أوراق الخريف

نفض أوراق الخريف

11 فبراير 2015
شكل فوز الباجي قائد السبسي صدمة على المستوى العربي(Getty)
+ الخط -

قبل الربيع العربي، كانت الدول العربية يسودها الخمول السياسي ويخنقها غياب الحراك السياسي الذي يساهم في التغيير الديمقراطي وينشده، فالشرق الأوسط قبل الثورات مثلاً، كان ينقسم إلى دول رئاسية طويلة المدى، سلطوية ديكتاتورية كتونس ومصر وسورية وليبيا، وبين دول ملكية راسخة. وعلى الرغم من اختلاف طبيعة وشكل المؤسسات الحاكمة في الشرق الأوسط، إلا أنها تتشابه في التسلط والتعسف وقمع كل مناد بالديمقراطية. كنا قد اعتدنا على هذه الصورة النمطية في علاقة الشباب العربي والشعوب العربية بحكامها، أو بالأحرى فرضت علينا، ودفعتنا إلى اليأس من تغييرها، لكن حدث شيء لم يكن في الحسبان، على نحو قلب كل الموازين.

خلال الأربع سنوات الماضية، شهدت دول الشرق الأوسط حراكاً شعبياً ثورياً فرش الطريق لمرحلة انتقالية عميقة في المنطقة. هذا الحراك أعطى بصيص أمل للشعوب العربية بإمكانية التغيير السياسي وتجديد القيادات وبعث شحنة إيجابية للعرب تنبئهم ببداية التغيير، وظهرت في هذه السنوات الأربع اجتهادات ومحاولات في رسم ملامح المستقبل السياسي في بلدان الربيع العربي، سلمياً أو عنفياً، مما أثار جدلاً ونقاشاً حادين حول مستقبل الشرق الأوسط . لكن للأسف هذا الضوء المنبعث بدأ يفقد بريقه رويداً رويداً، بسبب كل المعيقات التي واجهته وحاربته.

فقبل أربع سنوات من اليوم، لم يكن يعلم بائع الخضار التونسي محمد بوعزيزي الذي أضرم في نفسه النار في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، أنه بحرقه لنفسه قد أشعل معه موجة الثورات والسعي إلى التغيير، وحوّل تونس إلى مسقط رأس الربيع العربي، ومثل أعلى في محاربة الاستبداد. فبعد الحراك الشعبي السلمي التونسي، هرب المخلوع زين العابدين بن علي، وبدأت تونس في بناء دولة جديدة، عبر اتباع مسار ديمقراطي، ورغم بطئه، إلا أنه أبرز إنجاز دستور جديد تبعه تحديد موعد الانتخابات. الأغلبية ظنت أن تونس شكلت الاستثناء في الربيع الديمقراطي بسبب ضعف أنصار المخلوع بن علي، وبعد الشرطة والجيش عن السياسة، وعدم تدخل قوى خارجية، وكذا توافر القوى السياسية المختلفة أيديولوجيًا على درجة معقولة من النضج السياسي. لكن التطورات الواقعية جاءت عكس اعتقاد المتابعين. فما حدث في البرلمان التونسي وعجز الفواعل السياسية عن توفير التوافق فيما بينها بسبب سعيهم لمصالحهم الشخصية وفوز الباجي قائد السبسي، المتقدم في السن، والذي يعتبر من سلالة بن علي، صدم كل العرب، وحطمت آمالهم، التي كانت منعقدة على تونس، في التغيير، وأيقظتهم من حلم الديمقراطية.

أما بخصوص مصر فالوضع مختلف عن تونس. فمنذ بداية الثورة المصرية تدخلت الشرطة والجيش، وانحازوا للمؤسسة العسكرية على حساب الثوار المدنيين. فمباشرة بعد تنحي المخلوع حسني مبارك، سيرت المؤسسة العسكرية حكم البلاد وأفلتت في تسليم السلطة للرئيس الشرعي المنتخب، محمد مرسي، الذي تعرض لوقوف أجهزة الدولة ضده. كما تم الانقلاب عليه من طرف الجيش وعبد الفتاح السيسي، يوم 30 يوليو/تموز 2013. ومنذ هذا التاريخ الملعون، دفنت ثورة 25 يناير، ودفنت معها أحلام المصريين، وباختصار تحولت حياة المصريين لجحيم، نظراً إلى كمية قمع وتسلط الرئاسة العسكرية. بل وأكثر من هذا، تمت تبرئة مبارك ونجليه والمتورطين معه من التهم المنسوبة إليهم، في مقابل اعتقال علماء ودكاترة وثلة من خيرة شباب مصر. وكأنهم يعلنون رجوع الدولة العميقة. لو كان ضحايا الثورات يعلمون أن موتهم لا يفيد لاختصروا الوقت والجهد واحتفظوا بحياتهم.

أما بالنسبة إلى سورية والعراق فهما من أكثر الدول دموية و قمعا واستبدادا، فالصراع بين الثوار والأنظمة يسوده طابع العنف المسلح، بحيث تحولت المظاهرات إلى حرب أهلية حقيقية بين الثوار وأجهزة الدولة، إلى حد لما ينفد السلاح أو يقضي الطرف الأول على الطرف الثاني. خصوصا بعد ظهور ما يسمى بداعش وأيضا بسبب التدخل الأجنبي في المنطقة.

ليبيا تشبه سورية والعراق إلى حد كبير، فيما يتعلق بالعنف المسلح بين الثوار والقذافي سابقا وحفتر حاليا. وهذا الصراع تزايد بعد الفترة الانتقالية الدستورية الهشة. ويبدو أن الليبيين هم وحدهم من فهموا لعبة عودة الدول العميقة، ونفذوا حكمهم في القذافي، ظنا منهم أنهم قطعوا جذور الدولة العميقة، لكن ظهور حفتر في الصورة قلب الموازين وجعلهم أمام خيارين، الأول هو أن يستمرو حتى ينتصروا، والثاني هو أن يستسلموا ويسلموا ليبيا لحفتر، كي تكون نسخة عن مصر الانقلابية. الشيء نفسه بالنسبة لليمن وظهور الحوثيين في الواجهة.

للأسف إن الثورات العربية قوبلت بثورات مضادة خدمة لمصالح الأنظمة القديمة. فعندما يكون هناك كثير من المعاناة والدماء والألم في كل مكان، قد يقول البعض إن نتيجة "التطورات العربية" جاءت مدمرة وسلبية. والبعض يمكن أن يحمل مسؤوليتها للولايات المتحدة الأميركية أو للإسلاميين، وحتى للثوار. ومع ذلك، هؤلاء النقاد يفضلون نسيان الوضع الأولي في جميع هذه البلدان، وإهمال حقيقة أن السخط الشعبي جاء نتيجة الضغط المتزايد على الشعوب من طرف الأنظمة التي لم تكلف نفسها بتحقيق حتى جزء صغير من المطالب المشروعة لشعوبها، لم يدرك الحكام بعد أن أوباما الذي يخسرون شعوبهم من أجل إرضاء بلده، يمكنه دعم مبارك أو بن علي أو حفتر حتى النهاية، لكنه لن يكون قادرا على تفريق مليون متظاهر في ميدان شعبي.

مع مرور الوقت يتأكد لنا أن الربيع العربي تساقطت أوراقه وأصبح خريفا. وللخروج من الأخطاء التي ضيعت الثورات يجب مراجعة كل الأوراق ورسم خطة واستراتيجية محكمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن الشرق الأوسط في هذه المرحلة بين طريقين، إما أن يستمر في الضياع وينتهي تماما، وإما أن يتم الاتفاق بين كل النشطاء الثوريين الأحرار وبين المثقفين وبين كل شخص غيور على وطنه لتصحيح مسار الثورات وسلب كل الصلاحيات من العجزة وتسليمها للشباب الحر الذي ضحى بروحه في سبيل النهوض بالوطن. فالآن وبعد أربع سنوات بدون نتيجة ملموسة دقت ساعة الحسم، فإما إحياء الثورات من جديد وإما استمرار ضياع الربيع العربي.


(المغرب)

المساهمون