نفايات لبنان... نحو مزيد من الطمر قبل الحرق

نفايات لبنان... نحو مزيد من الطمر قبل الحرق

25 يوليو 2019
الأزمة قد تتجدد (حسين بيضون)
+ الخط -

لا يمكن القول إنها أزمة نفايات جديدة في لبنان. الأصح أنها مستمرة منذ سنوات طويلة، في ظل اعتماد حلول قصيرة الأمد أو طارئة، بدلاً من حلول مستدامة تراعي المعايير البيئية. ويبدو أن هناك توجها لا يقتصر على بلدية بيروت فحسب، بل وزارة البيئة أيضاً، لاعتماد المحارق

خفوت الحديث عن ملف أو أزمة النفايات في لبنان لا يعني التوصّل إلى أية حلول. فما حدث، أول من أمس، يشير إلى أن الأزمة ما زالت تُراوح مكانها، وأن الكارثة لم تحدث بعد. أول من أمس، أعلن رئيس اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية، محمد درغام، أن "الاتحاد بصدد إقفال مطمر الكوستابرافا (أمس) في وجه النفايات التي تُرسل إليه من كل المناطق (أي بيروت وبعبدا وعاليه والشوف)، ما عدا نفايات الضاحية الجنوبية لبيروت والشويفات"، مشيراً إلى أن "معمل الفرز في العمروسية لن يستقبل إلا نفايات الضاحية الجنوبية لبيروت ومنطقة الشويفات".

إعلان استدعى لقاء وزير الدولة لشؤون مجلس النواب محمود قماطي، ورئيس الحكومة سعد الحريري، في السراي الحكومي، وقد أعلن الأول أن موضوع إقفال الكوستابرافا ليس جديداً بل هو قديم وتم تأجيله، وهو غير مرتبط بأي حدث سياسي حالي، والخطوة هي للوصول إلى الحلول الجذرية لمشكلة النفايات. وأكد أن "الجلسة مع الحريري كانت إيجابية، وتم الاتفاق على خارطة طريق للحل"، مضيفاً أن "هناك حلا موقتا وآخر جذريا لمشكلة النفايات، والمطامر الصحية هي الحل المؤقت لحين الوصول إلى الحلول الجذرية"، موضحاً أن الحل الجذري إذا بدأ اليوم يحتاج إلى 4 سنوات، وهو لكل لبنان".

وتحديداً في 25 يونيو/حزيران الماضي، حذّرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" من أنّ مطمر برج حمود، أحد المطمرين الأساسيين اللذين يستقبلان نفايات بيروت (إلى جانب الكوستابرافا)، سيصل إلى سعته القصوى مع نهاية يوليو/تموز الجاري، علماً أن الحكومة كانت قد قدّرت أن المطمر سيبقى قيد العمل حتى 2020.

المنظمة أشارت إلى أنه يتوجّب على "اللجنة الوزارية أن تجتمع فوراً لمناقشة خارطة الطريق ومشاركة محتواها مع الخبراء والرأي العام، وتوسيع دائرة النقاش قبل إنجاز الخارطة وتسليمها للحكومة".

قبل ذلك، تعالت أصوات أخرى محذّرة من احتمال عودة النفايات إلى الشارع، حين يصل مطمر برج حمود إلى سعته القصوى خلال الشهر الجاري، المشهد الذي لم ينسَه اللبنانيون بعد. ففي عام 2015، تحرّك أهالي منطقة الناعمة (إحدى قرى قضاء الشوف في محافظة جبل لبنان) مطالبين بإقفال مطمر الناعمة، وهو ما تحقق. بعد ذلك، توقفت شركة سوكلين عن جمع النفايات، لعدم وجود مكان آخر لرميها، قبل أن ينتهي عقدها وعقد شركة سوكومي نهائياً، لتغرق البلاد في النفايات.

ومؤخراً، أرجأت بلدية بيروت إقرار دفتر شروط معمل التفكك الحراري (المحرقة) إلى وقت غير محدد، على خلفية الملاحظات التي أبداها عدد من أعضاء المجلس البلدي حول بعض البنود.
لكن، وبعيداً عن إقرار بلدية بيروت المحرقة من عدمه، ماذا ينتظر لبنان بعدما يصل المطمران الرئيسيان إلى سعتهما القصوى؟

منذ عام 1997، يعتمد لبنان على خطط الطوارئ لإدارة أزمة النفايات الصلبة. قبل 22 عاماً، وافقت حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري على "خطّة طوارئ" صاغت مضمونها شركة سوكلين، تضمنت إقفال مكب برج حمود، في 30 مايو/أيار 1997، وإنشاء مركزين جديدين لمعالجة النفايات في كل من الكرنتينا والعمروسية. إلا أن الخطة لم تتحقق، ما دفع حزب الطاشناق ونواب منطقة المتن إلى إضراب تحذيري للمطالبة برفع النفايات التي تهدد حياتهم، قبل أن يوافقوا على اقتراح وزير البيئة وقتها، أكرم شهيّب، بتمديد مهلة إقفال المكبّ حتى 15 يوليو/تموز. وعلى غرار ما يحدث اليوم، عمد شهيّب إلى الترويج لإنشاء المحرقة أو تبقى النفايات في الشوارع. لم تُنشأ المحرقة، في وقت ما زالت خطط الطوارئ سارية حتى اليوم، إضافة إلى الترويج للمحارق.



ماذا يحدث اليوم؟

يقول المهندس البيئي في مركز حماية الطبيعة في الجامعة الأميركية في بيروت، أنور الشامي، لـ "العربي الجديد"، إنّ "الدولة ما زالت تتعامل مع النفايات الصلبة ككتلة واحدة، علماً أن فرز البلاستيك والتنك والزجاج والكرتون وغيرها، واستعمالها أو إعادة تدويرها، وفرز المواد العضوية، واعتماد التسبيخ أو الهضم اللاهوائي، ستؤدي كلها إلى بقاء كمية قليلة من النفايات للطمر. بالتالي، حتى لو ظلّ خيار إنشاء محرقة قائماً، لن تكون هناك حاجة إلى إنشاء محرقة كبيرة، ما يسهّل عملية التحكم بها". ويلفت إلى أن "بعض المطامر مجهزة بآلات فرز تحتاج إلى تطوير من جهة وتحفيز المشغلين اقتصادياً من جهة أخرى. كما أن الاتحاد الأوروبي دعم بناء 11 منشأة للفرز على مختلف الأراضي اللبنانية".

ويرى أنه استناداً إلى خارطة الطريق 2019 ــ 2030 لقطاع الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، المقدمة من قبل وزارة البيئة إلى مجلس الوزراء، "فإن الخطة المتوقعة للمرحلة المقبلة هي توسيع إضافي لمطمري برج حمود والجديدة".

يشار إلى أنّه، في 3 يونيو/حزيران الماضي، قدمت وزارة البيئة إلى مجلس الوزراء خارطة الطريق 2019 ــ 2030 لقطاع الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة. الخارطة مقسومة إلى مرحلتين، واقترحت تكليف مجلس الإنماء والإعمار، بالتنسيق مع وزارة البيئة، "تلزيم إنشاء المطامر الصحية المذكورة في خارطة الطريق المرفقة، و/أو توسيعها، و/أو تشغيلها (بما في ذلك الاستملاكات اللازمة وأية دراسات ذات الصلة)، على أن تؤخذ بالاعتبار، بالنسبة لتلك القائمة، العقود التشغيلية الخاصة بها، وذلك بالسرعة القصوى، تدريجياً وفق الأولوية"، و"إعداد دراستي تقييم الأثر البيئي لإنشاء معملي تفكك حراري، وفق دفتر الشروط الموافق عليه بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 46 تاريخ 26/10/2017، وذلك في موقعين على الساحل (أحدهما جنوبي بيروت: الجية أو الزهراني، والثاني شمال بيروت: دير عمار)"، وغيرها.

رفضاً للمحارق (حسين بيضون) 


وإن كان حلّ توسعة المطامر الحالية أو إنشاء أخرى أو الاثنان معاً غير مؤكد، إلا أنه لا يبدو أنّ في الأفق أية توجّه لحلول أخرى تأخذ في الاعتبار ما يقوله الخبراء البيئيون، لجهة تفعيل معامل الفرز على الأقل، حتى لو لم يُعتمد خيار الفرز من المصدر.

مطامر ومحارق

يقول مستشار وزير البيئة فادي جريصاتي، جوزيف أسمر، إن خارطة الطريق المقترحة تستند إلى القانون رقم 80، تاريخ 10/10/2018، "الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة"، ويعتمد التسلسل الهرمي المبني على الفرز من المصادر وإعادة التدوير وإنتاج الطاقة وغيرها قبل الوصول إلى المطامر والمحارق. لكن لا بديل عن الخيارين الأخيرين، لأن نسبة المرصودات التي تبقى بعد الفرز تقدر بنحو 35 في المائة، وهذه نسبة كبيرة للطمر، فكان خيار المحارق، ليبقى ما نسبته 10 في المائة فقط للطمر. لذلك، يرى أن الفرز وغيره إضافة إلى المطامر ضرورية، خصوصاً أن إنشاء محرقة يتطلب 5 سنوات.

إلّا أنّ توسعة المطامر تعني أن المشكلة البيئية والصحية إلى تفاقم. لماذا؟ يتطرق الشامي أولاً إلى مدى خطورة إنشاء مطمر على البحر، بسبب تأثيراته على البيئة البحرية. كما أن مطمر الكوستابرافا، ككلّ المطامر البحرية والعديد من المطامر الأخرى، إضافة إلى المطامر العشوائية (التي يفوق عددها الـ 800)، ليست مجهزة ببطانة تمنع تسرب عصارة النفايات إلى المياه الجوفية والسطحية، ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة التلوث نتيجة المعادن السامة فيها، والتي ستؤثّر حتماً على الإنسان. كذلك، فإن الطمر العشوائي يزيد نسبة التلوث في الهواء نتيجة انبعاث غازات سامة عدة، أبرزها كبريتيد الهيدروجين ذو الرائحة الكريهة. وتشير دراسات عدّة إلى وجود رابط بين تنشّقه والإصابة بأمراض الجهاز التنفسي، إضافة إلى عوامل ضارة أخرى.

وفي المكبات العشوائية، إما أن يلجأ المواطنون إلى إحراق النفايات بعد تكدّسها، أو تحترق تلقائياً، ما يؤدي إلى انبعاث غازات سامة من دون معالجة، تؤدي إلى ارتفاع نسب الإصابات بأمراض السرطان، إضافة إلى مشاكل في الإنجاب وتلف جهاز المناعة وغيرها.
لكن لماذا يرفض البيئيون المحرقة؟ بداية، الرفض ليس رفضاً مطلقاً، بل رفض في ظل الواقع اللبناني الحالي. في هذا السياق، تقول الأخصائية في الإدارة البيئية والعضو في ائتلاف إدارة النفايات، سمر خليل، إنّ "مخاطر إنشاء محرقة في بيروت تتمثّل في نوعية النفايات، وعدم اطلاع وزارة البيئة على دفتر الشروط، وعدم القدرة على إنشاء معمل فئة أولى في بيروت بحسب المخطط التوجيهي للمدينة، وغياب دراسة تقييم بيئية وجدوى اقتصادية، وعدم وضوح مصير الرماد الناتج عن الحرق، وغياب مرافئ لإدارة النفايات الخطرة في لبنان". تضيف أنه حتى لو أقرّ إنشاء محرقة في بيروت، "هناك خطوات عدة يجب اعتمادها قبل أن تدخل حيّز التنفيذ، منها إجراء مناقصات، ودراسة الأثر البيئي، وغير ذلك".

ماذا عن الفرز؟ (حسين بيضون) 


من جهة أخرى، فإن سوء الإدارة في لبنان، وعدم قدرة الدولة على إيجاد حل لانبعاثات دواخين معمل الذوق الحراري (شمال بيروت) وغيرها، يدفع خليل إلى التشكيك في قدرة أجهزة الدولة على إدارة محرقة، خصوصاً أن أي تقصير سيؤدي إلى انبعاث ملوثات عضوية سامة ستنتقل بفعل اتجاه الهواء إلى مناطق عدة في بيروت، كالأشرفية، وبرج حمود، وسن الفيل، ورأس بيروت، وتؤدي إلى الإصابة بأمراض السرطان وتشوهات خلقية وغيرها.
والبديل هو اتباع التسلسل الهرمي لإدارة النفايات، بحسب خليل. وبدلاً من النظر إلى تجربة الدنمارك، يمكن الاستفادة من التجربة السلوفينية التي عمدت إلى الحد من إنتاج النفايات من خلال العمل مع المصانع والتخفيف من التغليف، واستعمال مواد يمكن إعادة استخدامها أو تدويرها مع محفزات مالية. كما عملت على إعادة التدوير والفرز من المصدر مع تشديد الرقابة والمحاسبة، وقد نجحت في تخفيف نسبة النفايات قبل طمرها.

تشكيك

من جهته، يتفهّم أسمر التشكيك في موضوع إدارة الدولة لملف المحارق، إلا أنه يشدد على حرص وزارة البيئة على تفعيل الرقابة للتأكد من حسن سير الأمور، أو تعليق العمل بها. وعن سبب عدم تطبيق قانون 2018 حتى اليوم، والذي لم يتضمن إنشاء محارق على عكس خارطة الطريق الأخيرة، فيشير إلى أنه ما زال في حاجة إلى مراسيم تطبيقية.



إضافة إلى خليل، لدى الشامي الكثير ليقوله عن مخاطر المحرقة: "أولاً، تحتاج إلى كمية معينة من الطاقة للتمكن من حرق النفايات على حرارة 850 درجة، والتي لا يمكن أن تتوفر من نفايات لبنان، لأن نحو 52 في المائة منها عضوية، ما يستوجب إضافة الديزل. والكلفة التقديرية السنوية لشراء الديزل هي 11.7 مليون دولار سنوياً. ثانياً، إن تعطّل أي آلة فيها سيؤدي إلى تراكم النفايات في الشارع لبعض الوقت. ثالثاً، إن المحرقة التي تقدّر كلفة إنشائها بـ 350 مليون دولار ستنتج عوادم سامة لم يتطرق أحد إلى كيفية طمرها. ورابعاً، إن إنشاء أية محرقة سيزيد من تلوث الهواء، حتى لو شُغّلت بتقنية عالية".

إلى ذلك، يقول مصدر نيابي، رفض الكشف عن اسمه، لـ "العربي الجديد"، إن سعة مطمر الكوستابرافا لم تنته بعد، بل يمكنه تحمّل كميات إضافية من النفايات حتّى سبعة أشهر. من جهة أخرى، يشير إلى حديث عن توسعة مطمر الناعمة.

من جهته، يقول نائب رئيس بلدية بيروت، إيلي أندريا، لـ "العربي الجديد"، إن تقنية المحارق معقدة وشديدة الخطورة ومخصصة للعالم الأول، في ظل التشريعات والقوانين والضوابط القانونية لديها. ويسأل: "كيف يمكن للبنان الذي لم يتمكن من إيجاد حل لانبعاثات دواخين معمل الزوق على مدى 25 عاماً إنشاء محرقة؟".

حين تكدست النفايات في شوارع لبنان (حسين بيضون) 


من جهة أخرى، فإنّ دفتر الشروط لا يحدّد موقع إنشاء المحرقة، سواء أكانت في بيروت أو خارجها، علماً أنه لا يمكن بناء معمل فئة أولى في بيروت، وهو ما يتطلب قراراً استثنائياً من مجلس الوزراء. ولدراسة الأثر البيئي من قبل وزارة البيئة، يتوجب على البلدية تحديد موقعين. يتابع أنه ما من جدوى اقتصادية للمشروع، "علماً أن كلفة المشروع تتجاوز 300 مليون دولار. كما أن ميزانية البلدية ستكون مرهونة أو مرتبطة بالعملة الأجنبية لفترة طويلة. فماذا لو شهد البلد انهياراً اقتصادياً؟".

في المقابل، يؤيّد رئيس لجنة الأشغال النيابية النائب نزيه نجم، خلال حديثه لـ "العربي الجديد"، المحرقة أو أي اقتراح بديل، طالما أنها تستوفي الشروط، لافتاً إلى أنه ما من بلد في العالم لا يلجأ إلى حرق النفايات. ويوضح أن الدراسة التي أعدتها البلدية ما زالت تحتاج إلى إضافات تتعلق بكيفية المراقبة التي يجب أن تكون متكاملة وتتضمن المجتمع المدني والجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية الأميركية وآخرين، وعدم تحديد أي موقع لإنشائها، ومصير الرماد بعد حرق النفايات. في الوقت نفسه، يشدّد نجم على أهمية فرز النفايات وإعادة التدوير، على غرار ما يحدث في معمل معالجة النفايات المنزلية الصلبة في مدينة صيدا في جنوب لبنان.

المساهمون