منذ بطريرك الموارنة الياس الحويك الذي تولّى البطريركية المارونية بين عامي 1899 و1931، لم يعرف لبنان بطريركاً مؤثراً كما كان نصر الله صفير، الذي قاد البطريركية المارونية بين عامي 1986 و2011، ورحل فجر الأحد 12 مايو/أيار 2019 عن عمر 99 عاماً في مستشفى أوتيل ديو، بيروت. بين الرجلين أكثر من نصف عقد، وتجمعهما الكثير من السمات التي طبعت مرحلتيهما. تختصر المقارنة بينهما بأنهما كانا رجلي دين بأدوار سياسية واسعة. الأول نال لقب بطريرك "لبنان الكبير"، بما أنه كان عراب إنشائه عام 1920، والثاني نال لقب بطريرك "الاستقلال الثاني"، في إشارة إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان في عام 2005، بما أنه كان محركه. راكم صفير خلال فترة توليه البطريركية المارونية الكثير من الخصوم، وحتى الأعداء، حاله كحال أي شخصية قررت دخول غمار السياسة، خصوصاً في بلدان منطقتنا، لكن الأكيد أن الرجل طبع خلال عقدين ونصف العقد مرحلة كاملة لا يمكن قراءتها بمعزل عنه. لم يكن صفير رجل دين فحسب. كان خلال تلك الفترة زعيماً مارونياً مسيحياً لبنانياً، وربما لهذا السبب طُرح اسمه يوماً بصورة جدية في الأروقة السياسية لرئاسة الجمهورية. كان ذلك في المرحلة التي تلت 14 فبراير/ شباط 2005، يوم اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، ويوم ولدت "انتفاضة 14 آذار" التي ساهمت في إخراج الجيش السوري من لبنان.
يُقال في لبنان إن المرحلة التي عاصرها صفير هي التي فرضت عليه دخول السياسة. عملياً عاش صفير، المولود في قرية ريفون في كسروان (شمال شرقي بيروت) في 15 مايو 1920، الحرب الأهلية اللبنانية كلها بتفاصيلها (1975 ـ 1990)، واتفاق الطائف (1990)، ومرحلة الوصاية السورية (1976 ـ 2005)، ومرحلة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان (1978 ـ 2000). نجح في قيادة المسيحيين في لبنان، في مرحلة كانت فيها قياداتهم كلها إما في السجن (رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع)، وإما في المنفى (رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل، والرئيس الحالي ميشال عون).
منذ اليوم الأول الذي أصبح فيه صفير بطريركاً، كان يعلم أن اسمه موضوع على لوائح الاغتيال. في تلك الفترة قُصف محيطا بكركي ودار الفتوى (في بيروت) بالتزامن. كان صفير ومفتي الجمهورية آنذاك، حسن خالد، الذي يتهم النظام السوري باغتياله، يتموضعان في مكان واحد، ونجحا في بناء جسور مشتركة بين المسيحيين والمسلمين يمكن التأسيس عبرها وسط لغة السلاح التي كانت تحكم البلد. وقف خالد يوماً وقال إن "الغربية (بيروت الغربية التي كان سكانها بمعظمهم من المسلمين)، تُقصف من الغربية (في إشارة إلى الحضور السوري في أحياء بيروت الغربية)". بعد أيام من اغتيال المفتي خالد، وصلت الرسالة إلى بكركي أيضاً، فقرر صفير فتح الصرح أمام المعزين، معتبراً أن اغتيال خالد هو اغتيال للوطن. رد صفير على اغتيال المفتي، ومضى في مشروع إنهاء الحرب الأهلية بأي ثمن. في تلك المرحلة بدأت علاقة صفير برفيق الحريري تترسخ. كان الحريري عراباً لاتفاق الطائف بتكليف سعودي، وكان صفير أباً روحياً للاتفاق، فعمل على تسويقه وحتى إقناع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع به، وهذا ما حصل.
رسّخ صفير خلال أقلّ من ثلاث سنوات معارضة مسيحية متماسكة، مدركاً في الوقت نفسه، بناءً على تجربة الثمانينيات وعلاقته بالمفتي حسن خالد، أن المعركة ضد الوصاية السورية معركة وطنية، لا مسيحية فقط. عليه، وبالتزامن مع لقاء "قرنة شهوان"، كان صفير يرسخ العلاقة مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، لتتوج بمصالحة الجبل عام 2001، بين الزعيم الديني ــ السياسي للمسيحيين، وبين جنبلاط، فكانت خياراً استراتيجياً أنهت مرحلة سوداء من تاريخ لبنان، وفتحت حقبة جديدة يمكن من خلالها التعاون سياسياً بين المسيحيين والدروز، بعد تهجير عام 1983، بما عُرف في حينه بـ"حرب الجبل"، وهي من أكثر الفصول الدموية للحرب الأهلية اللبنانية.
وصلت رسالة اغتيال الحريري فبادر صفير، كما عند اغتيال خالد، مدركاً أن اللحظة هي للوحدة الوطنية ولإعادة التشبيك بين المكونات اللبنانية. أرسل مطران بيروت بولس مطر لحضور اجتماع المعارضة في قصر قريطم (قصر الحريري)، الذي أعلن المواجهة مع النظام اللبناني – السوري، برعاية وحضور بكركي، وسيدها الذي بات لاحقاً رمزاً لقوى "14 آذار"، وحتى للشارع السني المؤيد للحريري. بعد عام 2005 ارتاح صفير. ابتعد الرجل عن صدارة المشهد، هو الذي كانت عظاته الأسبوعية استحقاقات سياسية مُنتظرة. باتت اللعبة لبنانية – لبنانية، خصوصاً بعد الانقسام العمودي في البلاد بين قوى "8 آذار" و"14 آذار"، والاتهامات التي وُجّهت مراراً لبكركي بأنها منحازة لفريق ضد آخر. لم يكن صفير يريد صراعاً لبنانياً – لبنانياً أو بالأحرى مسيحياً – مسيحياً، ولهذا ربما ابتعد، بعدما وقف يوماً ضد إكمال ما حققته انتفاضة "14 آذار"، والإطاحة بالرئيس إميل لحود، الذي كان جزءاً أساسياً من المنظومة الأمنية اللبنانية ـ السورية المشتركة. اعترض صفير على إسقاطه في الشارع خوفاً على الموقع المسيحي في المعادلة اللبنانية، وهو ما يؤخذ عليه لناحية تمسكه بالمنطق الطائفي لا المواطني ــ الوطني. وانتهت بذلك قوى "14 آذار" قبل أن تنجح بالإطاحة كلياً بالنظام المشترك. ربما العلاقة بين صفير وميشال عون، كانت هي الأصعب. هي التي فرضت عليه خيارات الابتعاد، خصوصاً بعد استدارة عون وتحالفه مع "حزب الله" والنظام السوري. مع العلم أن عون، وقبل استدارته تلك باتجاه التحالف مع دمشق، شارك في انتخابات عام 2005، وحصل على نحو 70 في المائة من أصوات المسيحيين. يومها قال صفير: "أصبح لكل طائفة زعيمها"، ورسخ بذلك المنطق الطائفي سيء الذكر، وطوى صفحة النزاع مع الرئيس الحالي، علماً أن صفير قال بعد سقوط عون في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990: "خلص (انتهى) الكابوس"، وكان يقصد به "انتهاء الحرب".