نساء مصر لم يسامحن

نساء مصر لم يسامحن

16 فبراير 2019
+ الخط -
كأن إسلاماً مصرياً وأفريقياً خاصاً قد نزل على هذه البقعة من العالم! أتحدّث هنا عن الجدل المتجدّد في اليوم العالمي لمكافحة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث.
أعادت صفحة دار الإفتاء المصرية نشر فتواها بتحريم هذه الممارسة، بناء على أضرارها المثبتة علمياً، وأكّدت أنها عادة لا عبادة. انفجر في وجه دار الإفتاء شلال الهجوم والسُباب ونسخ الفتاوى التراثية، حتى قال أحدهم "إنتو هتفتو؟!" مستخدماً التعبير المصري الشعبي الذي يصف المتحدثين من دون علم، لكنه هنا للمفارقة جاء في وجه الجهة الوحيدة التي يُفترض بها "الإفتاء" فعلا.
استخدم معارضون حجة بسيطة: لماذا لا يقوم باقي مسلمي العالم بهذه الممارسة الإجرامية؟ لا السلفية الوهابية في السعودية، ولا طالبان في أفغانستان، ولا حتى "داعش" في العراق. من إندونيسيا إلى المغرب لا تعرف الدول الإسلامية "ختان الإناث"، لماذا لا يوجد إلا في مصر والسودان والصومال مع الدول الأفريقية غير الإٍسلامية؟ إلا أن هذا لم يجدِ نفعاً مع من عميت أبصارهم وبصائرهم.
بينما انبرى معلقون آخرون لتأكيد أن الموضوع هامشي وتافه، لكن الحقيقة أن الموضوع يحمل في داخله أبعاداً اجتماعية وسياسية تلخص مشاهد أوسع بكثير.
بوجه عام، يمكن أن نرى بوضوح أثر طبقات "السلطوية" المتراكبة، فكما أن من حق السلطة السياسية السيطرة على أجساد مواطنيها، تعذيبهم في الأقسام، أو إجبارهم على الانتقال التعسّفي من مساكنهم، فإن من حق السلطة العائلية الهيمنة على أجساد أفرادها، العقاب العنيف للأطفال إلى حد الكي (بظهر الملعقة)، وشهدنا مقتل أطفالٍ بينما "يؤدّبهم" ذووهم، وبالطبع أجساد الإناث هي الساحة الأهم. معارك تدور حول بديهيةٍ بسيطةٍ مثل أن تترك الفتاه لتقرّر بنفسها ما تفعله بجسدها بعد سن الرشد، لو رأت هي أنها بحاجة لهذا "الختان".
نشاهد أيضاً عقلية المؤامرة نحو الغرب الذي يهدف إلى دفع بناتنا إلى الانحراف، وفي الوقت نفسه هي عقلية التفاخر الفارغ على الغرب بأخلاقنا وقيمنا، وربما بقدراتنا الجنسية أيضاً!
يمكن أن نرى أيضاً أثر عقود من التجهيل، غياب طريقة التفكير المنطقية والعلمية، وبالتالي فمتحدثون عديدون يرددون أساطير عن جسد المرأة، أو عن الجزء الذي يتم قطعه، أو عن "الطريقة الشرعية السليمة" التي لا تسبّب أضراراً.
نشاهد أيضاً أثر ثقافة غياب الفردانية لصالح المجموع المتخيّل، فكما يتم التهوين من عذابات الأفراد وموتهم لصالح مجد الأمة أو الوطن أو الدين، ولا مجال للحديث عن حقوق الإنسان إذا تعلق الأمر بالأمن القومي كما نعلم طبعاً، فإن مسألة الحالة الجسدية والنفسية للمرأة ليست ذات أولوية أصلا، خصوصا أنها ترتبط بالجنس الذي تعتبره الثقافة المصرية بحد ذاته مصدراً للعار، وبالتالي في الجوهر فإن المؤيدين، على الرغم من ادّعائهم عدم الضرر، لا يرون كارثةً أصلاً بهذه الإعاقة الجسدية، فما المشكلة أن تظل المرأة متألمةً وعاجزة في سبيل مصلحة المجموع؟
ومن اللافت للغاية أنه بقدر ما يتحمّل الإسلاميون المصريون بطوائفهم كافة، أزهريين وسلفيين وإخواناً مسلمين، الذنب الأكبر في تغذية هذه الثقافة الشعبية وترسيخها، وإلى اليوم لم نشهد بينهم أي مراجعةٍ أو اعترافٍ أو اعتذارٍ، بقدر ما إن السلطة الحاكمة تاريخياً لم تكن أكثر تقدّمية، على الرغم من قشرة الشعارات.
وباستثناء سنوات محدودة من حماس قرينة الرئيس حسني مبارك في سنواته الأخيرة، وهو ما أسفر عن قانون التجريم بعد مقتل الطفلة بدور عام 2007، فإن الموقف قبلها وبعدها كان التجاهل أو نقص الاهتمام بالمقارنة بخطورة الظاهرة. شهدنا على سبيل المثل النواب الذين ثاروا رفضاً لمشروع قانون تغليظ العقوبات، ورددوا أقوال الإسلاميين نفسها حرفياً. لكنّ للصورة جانباً آخر، كان واضحاً للغاية. جيل جديد من الفتيات والنساء، صنعتهن التجربة والألم، لا ينسين ولا يسامحن، ويواجهن ركام السلطات السياسية والاجتماعية بكل ما استطعن. كتبت امرأة مصرية تجربتها الخاصة بصراحةٍ وقوة، وجهت اللوم إلى كل الجهات المسؤولة، بمن فيها والدتها، وختمتها بقولها: "مش مسامحة".

دلالات