نذير ونبيل.. والموت السوري
يقولون: لم يسمحوا بتشييعه في دمشق، لم يتركوا لمن تبقوا من أصدقائه ومحبيه وتلامذته هناك أن يودّعوه في رحلته الأخيرة. لم يوافقوا على أن يُصلى على جثمانه في أحد جوامع دمشق. وضعوا الجثمان في سيارة دفن الموتى، ثم أخذوه سريعاً إلى المقبرة، وسريعاً واروه في الثرى. هكذا تختفي آثار جريمة القتل، إذ لا يُدفن بهذه الطريقة إلا قتيلٌ أراد قاتلوه أن يتخلصوا من فعلتهم سريعاً، فوضعوه في بطن الأرض، وأهالوا عليه التراب، وكأنهم يهيلون التراب على جريمتهم، كأنهم بهذا يقنعون أنفسهم أنهم أبرياء. لم يقم أحد بفعل قتل التشكيلي الكبير نذير نبعة. مات ميتة عادية، وهو ما بات نادراً في سورية، فالناس هناك يموتون تحت القصف، في تفجيرٍ ما، بطلقة قناص، ذبحاً، يموتون من الجوع أو من البرد، يموتون تحت التعذيب في المعتقلات، يموتون برصاصٍ طائشٍ أو رصاصٍ موجّه.
ميتات تدرج تحت اسم الجرائم الموصوفة. نذير نبعة لم يمت بواحدةٍ من تلك الطرق. مات ميتة عادية، عادية جداً، كما يموت خلق الله جميعاً. ولكن، مهلاً. من قال إن ثمّة ميتة عادية يموتها السوريون اليوم؟ من قال إن العادي السوري في الموت ظل يشبه غيره؟ هل ثمّة في كل ما يخص سورية الآن ما هو عادي، لكي يكون موت أهلها عادياً؟ من قال إن نذير نبعة لم يمت بجريمةٍ موصوفةٍ أيضاً؟ أليس الموت من القهر والغضب والحزن واليأس مما وصلت إليه حال سورية جريمة موصوفة، ارتكبها من أوصلوا سورية إلى حالها اليوم؟ هم يعرفون هذا، يعرفون أن قلب مبدع كبير لن يحتمل هذا القهر فتوقف. لهذا، تعاملوا في جنازته كما لو أنهم قتلته.
لكن، على الأقل إن كان ثمة عزاء وحيد، فهو أن جسد الراحل تغطّى بالتراب السوري، وهو ما لم يتح لسوريين كثيرين غيره، نبيل المالح مثلا، المخرج المبدع الكبير الذي أعياه الشوق إلى دمشق، وأعياه الحنين. مات في دبي، بعد يومين من موت نذير نبعة. مثل كثيرين غيره من السوريين، مات نبيل المالح بعيداً عن دمشق وعن سورية. في الخارج أيضاً، يموت السوريون، ليس كما يموت غيرهم، يموتون من القهر، من الحنين، من اليأس. يموتون من الوحدة والوحشة، يموتون خوفاً من أن يموتوا غرباء، أن لا يعرف أحدٌ بموتهم إلا بعد تعفن أجسادهم، يموتون خوفا من ألا يدفنوا في تراب سورية، يموتون غرقاً، يموتون برصاص حرّاس الحدود.
مات نبيل المالح، ولم يدفن في دمشق التي كان يحلم بالعودة إليها. لم يضمه التراب السوري كما ضم نذير نبعة. دفن في دبي، حيث كان يقيم. هل موته عادي؟ أليس المرض من فرط الحنين واليأس والخيبة، ثم الموت، جريمة أيضاً؟ أليست جريمة موصوفة أن لا يُدفن شخصٌ ما حيث يحب؟ فكيف إذا كان الشخص مبدعاً وجزءاً من ذاكرة جمعية في تاريخ بلدٍ ما؟ على أنه، إنْ كان ثمة عزاء وحيد في موت نبيل المالح، فهو أنه حظي بجنازةٍ تليق به. لم يمنع أحدٌ تشييعه، ولا الصلاة على جثمانه، وودّعه من حوله، من الأهل والأصدقاء والمحبين، وهو ذاهبٌ إلى رحلته الأخيرة، يا لمرارة المفارقة فعلاً.
يكتب صديق في دمشق، يوم وفاة نذير نبعة: أحياناً يصبح الموت في الوطن غربة. يكتب آخر يوم وفاة نبيل المالح: الموت في الغربة هو العودة إلى الوطن. يا لمرارة المفارقة، أن يحلم السوريون بموت كامل، لا ينقص من طقوسه شيء، أن تصبح المفاضلة في موتهم بين من مات في الوطن ودفن سريعاً ومن مات في الغربة ودفن بتأنٍ، غير أن بين هذين الموتين ثمّة موتا آخر، موتا مجهولا لا يسمع به أحد، ولا تفاصيل له، حتى بلا أسماء للموتى، بل مجرد أرقام في عدّاد الموت السريع. مع موتٍ كهذا، تكتمل الجريمة الموصوفة، الجريمة التي يراها الجميع، ويرون مرتكبها، لكن الجميع يقسمون أنه ليس لهذه الجريمة ضحايا، بل شبّه لمن يرونهم.