نحو بناء الدولة المدنية في لبنان

نحو بناء الدولة المدنية في لبنان

04 سبتمبر 2020
+ الخط -

طرح الرئيس اللبناني ميشال عون، في ذكرى المئوية الأولى لدولة لبنان الكبير، فكرة التغيير، والتوجه نحو الدولة المدنية. وعنى الدولة التي تخلع عنها ثوب الطائفية، وتلبس الفرد فيها صفة المواطنية، حيث الحقوق للجميع، على أنّ يطبّق الجميع واجباتهم تجاه الوطن.
مرّ لبنان عبر تاريخه، منذ تكوينه عام 1920 على يد الجنرال غورو في قصر الصنوبر في بيروت، بتغيراتٍ وتقلباتٍ عديدة في نظامه، بدءًا من النظام الجمهوري بعد عام 1946 مع الجلاء العسكري الفرنسي، حيث كان رئيس البلاد الحاكم شبه المطلق في قيادة البلاد. ومع الدستور الذي وضع يومها، عُرفت المناصفة في التوظيف، وكرّست عبر التقاليد، الحكم بحسب الطوائف الأساسية الثلاث في البلاد، المارونية والسنّية والشيعية. أما اتفاق الطائف (في العربية السعودية) عام 1990، فصحيح أنّه أنهى 15 عامًا من الاقتتال الداخلي بين اللبنانيين، ولكنه جرّد رئيس البلاد من أغلبية صلاحياته، ونزع عنه صفة لبنان ذي وجه عربي، وأعطاه الطائف الطابع العربي، فأصبح الحكم منوطًا بمجلس الوزراء مجتمعًا، تحديدًا عبر رئيس الحكومة، ليقتصر دور رئيس البلاد على صلاحيات محدودة. وفي العام 2008، ونتيجة أزمة سياسية تحوّلت عسكرية، ذكّرت اللبناني بحربه المريرة، كان اتفاق الدوحة الذي كرّس مفهوم المثالثة في الحكم، لتصبح السلطة التنفيذية مكوّنة من رئيس الجمهورية الماروني، رئيس مجلس الوزراء السنّي، ووزير المالية الشيعي. إذ لا قرار يُتّخذ في البلاد من دون التواقيع الثلاثة. 

مرّ لبنان عبر تاريخه، منذ تكوينه عام 1920 على يد الجنرال غورو، بتغيراتٍ وتقلباتٍ عديدة في نظامه


إذًا، عرف التكوين اللبناني مجموعة من الطوائف التي فرضت نموذج العيش المشترك في الحياة الاجتماعية، ونموذج التوافق في الحياة السياسية. إذ لا قرار يُتّخذ إلّا ويجب أن يتوافق عليه الجميع، أي الطوائف والقوى الحاكمة والفاعلة في البلاد. هذا ما كرّس مفهوم المحاصصة بين اللبنانيين، فانعكست من رأس الهرم إلى أسفله، فدخل الفساد في البلاد والعباد، وأصبح التوظيف والتعيينات بحسب الطائفة، فضُربت الكفاءة، وألغيت مقولة "الرجل المناسب في المكان المناسب". استغلّت الأحزاب الطائفية المكرّسة في تطبيق اتفاق الطائف، فصنعت قوانين انتخابية على مقياسها، وتقاسمت الغنائم تحت عنوان حصة كل طائفة. والأفظع من هذا، كانت الخطوط الحمر، واستنفار الطائفة، وغيرة الدين، عندما كان يُلقى بالاتهام على مسؤول أو رئيس. تمامًا كما حصل أخيرا مع رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، على سبيل المثال، عندما وضع عليه خطّ أحمر، كي لا يمثُل أمام القضاء ويُحاسب.

الدولة المدنية هي المطلب الأساسي، ولكن العوائق كبيرة وبنيوية في لبنان، فهل يكفي فقط التغيير في النصوص، كي نصبح مجتمعًا مدنيًا؟


تعهُّد الرئيس عون بالتوجّه نحو الدولة المدنية طرح متقدم في زمنٍ لا يزال أصحاب المليشيات متمركزين في السلطة. ومنهم من شطح أبعد بإعلان نفسه عرّاب الحراك، لا بل رأس حربته، كالقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي. .. نعم الدولة المدنية هي المطلب الأساسي، ولكن العوائق كبيرة وبنيوية في لبنان! فهل يكفي فقط التغيير في النصوص، كي نصبح مجتمعًا مدنيًا؟
بالطبع لا، فبالأمس القريب، أي بعد اتفاق الطائف، حاول بعض النواب طرح قانون الزواج المدني الاختياري (أشدّد على كلمة اختياري)، فقامت قيامة رجال الدين، وبدأ تكفير النواب، والتهديد بالحرمان، وبعدها رُمي القرار في الأدراج، وربما حُرق. وقبل أيام، قتل شخصان على خلفية تعليق يافطة ذات رمز ديني، ما أنذر بتدحرج الوضع نحو حربٍ طائفية جديدة، لولا حكمة العقلاء، وحزم الجيش والقوى الأمنية.

حاول نواب طرح قانون الزواج المدني الاختياري، فقامت قيامة رجال الدين، وبدأ تكفير النواب، والتهديد بالحرمان، ورُمي القرار في الأدراج


يحتاج المجتمع المدني إلى التثقيف أولًا، ولا سيما الأجيال الناشئة، التي لم تتشرّب بعد الطائفية والمذهبية، ولم تنغمس بعد في زواريب التعصّب الأعمى. علينا أن نبدأ من مناهجنا التربوية، لنربي أجيالًا على مفهوم المواطن الصالح، واحترام القانون، ونبذ الغشّ، والقرف من الواسطة، والمحسوبيات الطائفية. علينا العمل على التلاقي، بدل التقوقع كلّ في محيطه وبيئته التي تحمل شعاراته الدينية. ننجح في بنائها، إذا تضافرت جميع القوى السياسية والمدنية للعمل على ترسيخ مفهوم المواطنة، ورفع شأن الوطن، والعمل على تحقيق مصالحه العليا فوق كلّ اعتبار. 
أهمية طرح الرئيس، في هذا التوقيت، أنّه كسر حاجز الخوف، وبدأ مشوار الألف ميل نحو بناء الدولة المدنية. ولكننا نستبعد الوصول إليها في المديين، المنظور والمتوسط، ولا سيما أنّ محيطنا العربي منقسم طائفيًا بطريقة عمودية، والقوى اللاعبة الإقليمية، من تركيا إلى إيران، تعمل في عالمنا العربي على نشر روح الدفاع عن المقدّسات الدينية من هذا الفريق أو ذاك. فضلًا عن عدوٍ إسرائيليٍ لا يكلّ من العمل على زرع روح العداء بين المتقاتلين، كما ونقرأ في الميدان إعادة إحياء "داعش"، وما أداركم مَا "داعش" وما تصرفاتها!