نحن جثث تحت بيروت

نحن جثث تحت بيروت

05 اغسطس 2020
+ الخط -

اهتزّ كلّ شيء. تحوّلت المدينة إلى كتلة حمراء، انفجرت، تهشّمت، وسقطت فوق رؤوسنا. اهتزّ كل شيء. خرق الصوت المدوّي قلوبنا. تسمّرنا، كلّ في مكانه. إنّه انفجار بلا شكّ. ونحن اللبنانيين، نعرف الانفجارات ولنا في التعامل معها كتيّبات.

اهتزّ كل شيء. نرجف. نلتفت حولنا، تلفّنا الصدمة وتهزّنا من الداخل. عيوننا الباكية ترسل إشارات اطمئنان لمن هم خائفون حولنا. ما زلنا هنا.. فما الذي حدث؟

نخرج من منازلنا، نتابع السير في سياراتنا، ونركض على أقدامنا. نحاول أن نصل إلى نقطةٍ نرى فيها مصدر الدخان. مكان الانفجار. نحاول أن نستوعب ما الذي انفجر في وجهنا، لا جواب. لا صورة واحدة. دخان برتقالي يلفّ المدينة. ما هذا؟

تبدأ الأخبار بالتوارد. لا خبر يفسّر لنا حقيقةً. نرسل سريعاً، عبر تطبيقات التواصل، ما شاهدنا. نحاول طمأنة أمّهاتٍ باكيات يتّصلنَ، ولا نملك كلمات لتلك الطمأنة. نجوب بيروت، نفتّش عن المصدر، ولا نجده. نفتّش عن جواب، ولا نجده.

كيف حدث ذلك؟ كيف تحوّلنا من بشرٍ يطالبون بحياةٍ أفضل قبل أشهر  إلى مستهدفين يحاولون النجاة ويطلبون النجدة اليوم؟ كيف تحوّلت بيوتنا المشغولة بعناية إلى ركامٍ نحن تحته؟

 

كل بيروت متأثّرة. الزجاج في كلّ مكان. الأبنية على الأرض. الناس مدمّون في الشوارع. الأشجار ممزّقة. المحال التي لم تقفل بسبب الانهيار الاقتصادي مدمّرة. الكهرباء مقطوعة. سيارات الإسعاف تهرع، وأصواتها تملأ المدينة الخائفة. لا تفسير. حتى تبدأ مشاهد الانفجار بالتوارد.

نرمي هواتفنا من أيدينا. لا يمكن أن يكون هذا المشهد حقيقياً. لم نرَ  انفجار كهذا  إلا في هوليوود. نشاهد اللقطات مرة أخرى، ونسأل "كيف نجونا من هذا؟" رعبٌ لا يمكن وصفه. اهتزازٌ لا يمكن إيقافه. صدمةٌ لا يمكن تحمّل وجعها. وخسائر لا يمكن إحصاؤها: حياة البشر، أشغالهم، أموالهم، بيوتهم. شوارع بيروت، عناصر تكوينها كمدينة، كهرباؤها، مرفأها، مكاتبها. البنى التحتية، "الزوادة"، القمح، الأدوية..

يحلّ الليل والظلام يعمّ المدينة. الاتصالات لا تعمل. سيارات الإسعاف تملأ الشوارع. زحمةٌ بالقرب من المستشفيات، وعمليّات تجرى على أضواء الهواتف. جثث تنتظر وجرحى لا يجدون مكاناً. أصوات تكنيس الزجاج وتطايره تكسر صمت الليل الحزين. بكاء يخنق الوجوه، وشنط سفرٍ فوق الركام يجرّها ناجون يبحثون عن مأوى.

كيف حدث ذلك؟ كيف تحوّلنا من بشرٍ يطالبون بحياةٍ أفضل قبل أشهر إلى مستهدفين يحاولون النجاة ويطلبون النجدة اليوم؟ كيف تحوّلت بيوتنا المشغولة بعناية إلى ركامٍ نحن تحته؟ كيف خسرنا بيروت ومبانيها ومحالها وشوارعها، وناسها؟ كيف لـ"خطأ" أن يسبّب كل هذه الكوارث؟ كيف لكلّ هذا الفساد، لكلّ هذا الإهمال، ولكلّ هذا الإجرام، أن يكون هنا؟ كيف لهم أن يتكلّموا، وأن يصرّحوا، وأن يستجدوا مساعداتٍ فوق جثثنا، نحن العارفين أنّ دمنا سيكون شمّاعةً جديدة لسرقةٍ أكبر وفساد أشرس وقمع أكبر؟ كيف لهم أن يعيشوا؟

لا تختفي لحظات الانفجار ومشاهده من أمامنا. ما زلنا تحت الصدمة. لم نستوعب، حتى بعد تبادل اتصالات الاطمئنان ورسائل التضامن. كنا، قبل لحظاتٍ، نتناول الغداء، ونفتّش عن سيجارة نشربها بعده. كنا، قبل لحظاتٍ، نخطّط لليلٍ أسعد، ولغدٍ أرحم. كنا، قبل لحظاتٍ، بشراً يرفضون تصديق واقع الموت البطيء، فأتى موتٌ سريع وجماعي. كنا، قبل لحظاتٍ، رغم كلّ شيء، على أملٍ بمعجزةٍ ما..

يوم الثلاثاء 4 أغسطس/ آب 2020، سقطت بيروت على رؤوسنا. انفجرت، تهشّمت، احترقت، وماتت. فوق كلّ مصائبنا وخيبات آمالنا وتحطيم أحلامنا، انكسرت قلوبنا. قُتلنا.

لا ينفع الدمع ولا يكفي. لا ينفع الكلام ولا يكفي. 
نحن جثث حيّة تحت ركام بيروت. ولن يأتي للنجدة أحد.

12B88EE2-75E5-406E-B023-C3D7E731D57D
دجى داود

صحافية لبنانية، مهتمة برصد الإعلام ومواقع التواصل، وقضايا حقوق الإنسان وحرياته. عملت في وسائل إعلام لبنانية منذ العام 2011. انضمّت لأسرة "العربي الجديد" في مارس 2014."ثوري وارقصي تمرّداً"

مدونات أخرى