Skip to main content
نجيب محفوظ ورقبة الحكاية
عبد الحكيم حيدر
بعد الستين، وأنا أعبر شارع الجمالية، تاركا ورائي "لوكاندة باب الفتوح" التي تميل من قدمها ميلا بسيطا على الشارع، وكثيرا ما سمعت في مدخلها حكايات فلاحي الدلتا والصعيد أيام الموالد، بجوار رجل فوق دكة، أمامه دفتر قديم للمقيمين باللوكاندة، ولا يكف عن الضحك، ولا تكف يده عن كرّ حبات المسبحة.. وفجأة وجدت نفسي، مع ذكرياتي، أصل إلى "بيت القاضي"، ومصلحة "دمغة الذهب والموازين". هنا أدركت أن نجيب محفوظ كان هو ذلك اللبلاب الحنون الطري الذي التف في نعومة القطيفة على رقبة الحكاية في قلب مصر النابض بالحكايات والناس، من مسلمي الهند شرقا حتى حجاج مراكش وفاس غربا، حكايات تأتيه زاحفةً إلى مسامعه، وهو الرجل الذي يجيد الأصغاء، ابتداءً من المشهد الحسيني، بهجة سامرها، وقبلة عشاق أهل البيت من الحكّائين ورواة السيرة وأهل الله والمجاذيب، حتى تصل إلى أوائل "القرافة".
وما بين الحسين والقرافة، تعبر إلى أصوات "الصنايعية" وأصوات أصحاب عربات الفاكهة والمقاهي والأسبلة والعطور والأناشيد والتكايا، والفصال في البيع والشراء، ورائحة البخور والصندل، مع الأطفال والمجاذيب في المباخر النحاس، وتمر بأضرحة الأولياء والخانقات والعجزة، ودكاكين الأعلاف والنحاسين والحدادين، وصانعي المفاتيح من المبصرين والعميان أيضا.
هذا الرجل الذي كان في نعومة القطيفة سكن في قلب رقبة حكايات العالم، فأصغى حتى امتلأ كاسه وفاض، مرة بغناء الترك، ومرة بغناء الدراويش ومدائحهم، ومرات بحكايات البوظة وعراك النبابيت والفتوات.
كتب نجيب محفوظ عن ثراءٍ إنساني فاحش، لا يذهب إليه، بل يشم رائحة مباخره، وتأتيه حكاياتهم ليلا مع سامر الحكايات والليل، فالحكاية تتجلى في فم بائع البسبوسة في "زقاق المدق"، وسؤال الفتوة وانصهار اللذة تأتية مع العرق والأصوات الخافتة والتنهدات في روايته "الطريق" في أوقات الحيرة والسؤال، وطغيان سلطة الجسد على أي سلطة.
مشيّت أنا متأملا "شارع المسط"، فتلاقى مع جمالي ذلك الزمان والأزمنة الغابرة، كما تخيل، أو حاول أن يتخيّل، ولم ينس، بالطبع، أن يترك الجمال والبغال، وقِرب الماء مع السقّائين في المشهد المتخيل، حتى "البوظة" هي الأخرى لم تسلم من نعومة الخيال، إلا أنها كانت عصيّة، وخصوصا أن تعارك الدراويش على الأعتاب ليلا، وتصالحوا صباحا في القرافة.
مشى هو من دون أن يتخيل جميلات من أصفهان أو الهند قد جئن على الجِمال من قرون لزيارة آل البيت، ولمْس العتبات، ثم أكملن الرحلة إلى بغداد، مشى من دون أن يحمل أي نبوت يبحث به عن العدل، لأن العدل قد أصبح ضائعا، وقد يكون قد توارى مع الحكايات في "القرافة"، علّه كان يبحث، بعدما كبر، عن صوت مغنيةٍ شابة، هربت من الريف، وتسكن عند شيخ مغربي فوق سطوحه، خائفة من الأعمام والأهل، علّه كان يريد أن يركن ظهره على تخوم باب الشعرية من شرقٍ في ليل به نسيم، ويتأمل "نوريّة"، معها قرد وشخاليل، وقد خطفت قلبه برميةٍ من عينيها، ثم سحبت القرد ومشت. وهناك يسمع الدق على صفيح الفوانيس بالشواكيش والعربجية، وهم يربطون أحصنتهم التي كبرت وهزلت خلف مسجد الشعراني. أما لو أراد أن يدخل ساحة الأزهر، ويتأمل المجاورين وحالهم، أو حتى يتذكّر آثارهم في نصوصه، أو فرحه، وترحيبه بهم (وقد كان عالم نجيب محفوظ، وكأنه، يضيق بهم، اللهم إلا بعد نداءات ثورة 1919 وهو طفل يتابع المشهد من الحارات، ولا يجرؤ بالطبع على المشاركة)، فلم يجد، أو علّه لم يتذكّره. تأمل، وهو يمشي، رجلا مثل هذا، امتدت به الحياة، وغازله سكر العمر وطيب العيش، حتى اقترب من المائة إلا قليلا.
رجل وهبه الله عمرا مديدا، وسكينة وحلما، إلى درجة أنه تسامح من كان يريد قتله، لولا لطف الله، ومن عاش فقط، ليس أبدا كمن كتب، ومن حظنا أن نجيب محفوظ قد عاش، وكتب.