ناقد سينمائي في انتفاضة لبنان: تساؤلات وارتباكات

ناقد سينمائي في انتفاضة لبنان: تساؤلات وارتباكات

15 نوفمبر 2019
انتفاضة سلمية وارتباكات سينمائية (حسين بيضون)
+ الخط -
أيّ كلامٍ سينمائيٍّ يُمكن لناقدٍ أن يكتبه، في ظلّ انهيارٍ لا مثيل له لنظامٍ يحكم بلده ويتحكّم بناسه، قبل أنْ ينتفض ناسُ البلد على النظام، بأركانه كلّها، بسبب فساد النظام المؤدّي إلى انهياره، وانهيار البلد وناسه أيضا؟

أيّ نقدٍ أو تحليلٍ أو تفكيرٍ أو نقاشٍ يُمكن لناقدٍ أن يخوضه، الآن هنا، في ظلّ جنون وحماقة وتشاوف، تعتمل كلّها في نفوسِ أفرادٍ، ينهبون أموال البلد وناس البلد، وعندما يواجههم ناسُ البلد بمطالب محقّة، هي أصلا حقوق لهم مسروقة منهم وممنوعة عليهم سنين مديدة، يتعجرف هؤلاء الأفراد ويتعَالَون ويتواقحون، وبعضهم يتباهى بتاريخٍ شخصي، وبأعمال يظنّ هذا البعض أنها صالحة، وبمواقع يعتبرها هذا البعض نفسه حماية للناس والبلد، فإذا بـ"انتفاضة 17 أكتوبر" تفضح فسادهم وتواجه عنجهيّتهم وتكشف حضورهم وتُعرّي تاريخهم، سلميا ومدنيا وعفويا، فينكشفون كَذَبَةً ومرتبكين، لأنّ الانتفاضة أقوى منهم، وحصولها مفاجأة لهم، واستمرار سلميّتها يُربكهم؟

أية سينما تقدر الآن على قراءة الواقع، أو التنبؤ بغدٍ، وهذا جزء من نتاجاتها في تاريخها المديد؟ أية أفلام تستهوي ناقدا، فـ"تفرض" مهنته عليه الانصراف إليها بسبب وظيفته، من دون أن تحول الوظيفة دون اهتمامه بفعلٍ ثوريّ، وإنْ يُسمّى، الآن هنا، انتفاضة؟ أية صالات تجذبه إلى بهاء عتمتها، وهو يصرخ عاليا، مع ناس بلده المنتشرين في الشوارع والساحات والمدن، لجلاء العتمة عن بلده وناسه؟ أية أفكار تُثيره في نتاجاتٍ، وإنْ تكن النتاجات جزءا من وقائع العيش اليومي اللبناني، في مواجهة تنانين المال والطوائف والإعلام والأمن والسياسة والاقتصاد، قبل "انتفاضة 17 أكتوبر"؟ أية تساؤلات يطرحها الناقد عن علاقة السينما بالانتفاضة، بعد إهراق دمٍ بريء أمام عيون الناس وأرواحهم ومواجعهم، بل أمام عيون ابنه وزوجته، وهذا أصعب وأقسى على الابن والزوجة أولا وأساسا (علاء أبو فخر، 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019)، وقبله أمام عيون أصدقاء ومعارف وعابرين، وهذا صعب وحاد وقاس أيضا (حسين حسن العطّار، 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2019)؟

يعجز الناقد عن تلبية شرطِ مهنته، الآن هنا، المتمثّل بنقاشٍ مع السينما والسينمائيين، بعيدا عن غليان الشارع، وحيوية الناس، وحماسة التحدّي، رغم مخاطر ومخاوف وقلاقل. يحاول اللجوء إلى بهاء الصورة وتحريض النصّ السينمائيّ على الكتابة والقول، فتبوء محاولته بفشلٍ يتناقض وقدرة الانتفاضة على أنْ تنجح يوميا في أنْ تكون أكثر سلميّة ومدنيّة وعفويّة في يومياتها، رغم الدم المهراق، ولو قليلا، فهو دم غالٍ، ودم حقيقي، ودم بريء. يُشاهد ـ ولو قليلا ـ أفلاما جديدة أو قديمة، ويقرأ ـ ولو قليلا ـ كتبا سينمائية جديدة أو قديمة، ويبحث ـ ولو قليلا ـ عن أحداثٍ وقضايا سينمائية، ويتابع ـ ولو قليلا ـ أخبار مهرجانات سينمائية، بعضها يُعلن اختياره أفلاما مستلّة من وقائع العيش العربي على جمر الخراب والحروب والقتل والتنكيل، والمواجهة والتحدّي أيضا. لكنّ هذا كلّه يحول دون تمكّنه من كتابة وقراءة ونقاش، فالغليان أقوى، والحيوية أجمل، والحماسة أبهى، رغم قلق من أيام مقبلة.

يريد الناقد مشاركة ميدانية، فيتخبّط بين قوة غليان الشارع وضعف قدرته على التساوي بالقوة والغليان معا. يريد معاينة ميدانية، تجعله شريكا، ولو قليلا، بحدثٍ استثنائيّ لن يكون بعده كما قبله، لكنه يُصاب بارتباك فينزوي في عزلة مُقنّنة، متابعا بهدوءٍ صخبَ الغليان والحيوية والحماسة، في مواجهة مسؤولين يتقوقعون في قصورٍ أو يختبئون في زوايا مخفيّة، مُردّدين خطاباتٍ مهترئة، ومنادين بأوهامٍ باهتة، وقائلين شعارات يُدركون تماما رفضهم، هم أنفسهم، إياها، ويعلمون أنّهم، هم أنفسهم، متمنّعين عن ترجمتها، تلبية لمطالب شعبٍ، هي (المطالب) حقوقه المهدورة والمسروقة. ويُدركون أيضا رفض الناس لها، لأنّ الناس يعرفون أنّها كِذْبَة.

رغم هذا، يُفتّش الناقد في ذاكرة السينما عن أفلامٍ تواكب وقائع، أو "تتنبّأ" بها، رغم أنّ "التنبؤ" تعبيرٌ غير سليم كلّيا عن فعل السينما واشتغالاتها، فهي سبّاقة، أحيانا، في الكشف والقول، وهذا أصحّ من "التنبوء". يُدرك أنّ الذاكرة والتاريخ السينمائييّن حافلان بعناوين تصلح لإعادة المُشاهدة في زمن لبناني، يصنع تاريخا بدلا من أن يتعلّمه في مدارس وجامعات، كقولٍ رائعٍ لتلامذة وطلاب يُشاركون، بفعالية، في "انتفاضة 17 أكتوبر". لكنّه يعلم، في الوقت نفسه، أنّ الثورات غير متشابهة، وأنّ الانتفاضات غير مُتكرّرة، وأنّ لكلّ شعبٍ ثورته وانتفاضاته، وسينماه أيضا. وهذا لن يحجب سماتٍ وأسبابا مشتركة، فالغليان الحاصل في دول عديدة، في وقتٍ واحد، نابعة بمعظمها من تردّي الأحوال المعيشية، وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وازدياد وقاحة السياسيين وفسادهم.

أما القتل، فجزءٌ من تفلّت، أو من نيّةِ سلطةٍ، تريد القضاء الكلّي على الانتفاضة، لوأد كلّ انتفاضة مقبلة. والدم، وإنْ تُقدِّم "انتفاضة 17 أكتوبر" شهيدين اثنين فقط، غالٍ. يرى الناقد هذا كلّه، فيبحث عمّا يُخفِّف، ولو قليلا، من اضطراب ذاته وروحه، في سينما لبنانية تنتفض بلغتها على منعٍ وقمعٍ وتغييب، تمارسها سلطات الأمر الواقع، المتحالفة في نظامٍ يتحكّم بالبلد وناسه، قبل انتفاضة الناس عليه (النظام) منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. يذهب الناقد إلى السينما، لمشاهدة أفلام حديثة الإنتاج، فيعثر في بعضها، على الأقل، على مصائب تَعْنيه، فله منها في بلده ما يكفي لألف انتفاضة وثورة، ولألف سينما وفيلم. يختار من السينما ما يُكمِّل ارتباطه بانتفاضة بلده وناسه، كأنّه يُعوِّض بالمُشاهدة عن عجزه عن الكتابة في السينما وأفلامها وأحوالها، فيتمتّع بأفلامٍ مليئة بخراب الواقع، والمتعة منبثقة من جمال السينما، لا من خراب الواقع.

لعلّ المُشاهدة تمنح الناقد شيئا، ولو طفيفا، من فهم هذا الإنكار الرهيب لأركان النظام لحقوق واضحة للبلد وناسه. لعلّها تجعله يفهم أكثر، ويشعر أكثر، وينتبه أكثر.

المساهمون