نادي الكتب الممنوعة

نادي الكتب الممنوعة

02 ديسمبر 2019

(Getty)

+ الخط -
يقع الكاتب، في أحيان كثيرة، في حيرةٍ لماذا مُنع كتاب ما، فيما سُمح لآخر بالمرور؟ والمثير للاستغراب أنّ هذا المنع يطاول، أحيانا، كتبا عريقةً تداولها الناس منذ قرون، فقط لأن عين "الرقيب" اكتشفت، فجأة، في ما يشبه الإشراق، أن عبارةً ما يمكنها أن تؤوَّل تأويلا ممنوعا. 
باقتراب "موسم" معارض الكتب العربية، يكثر الحديث عن منع الكتب. ومعروف في بلداننا أن مصير كل كتاب تجاوز، قليلا أو كثيرا، جادّة الطريق "المرسوم" يكون المنع.
يشبه صراع الرقيب مع الكتب، وبالتالي مع الكاتب، صراعا مع الاستغفال. علينا أن ندخل، إذن، إلى عقل الرقيب وحياته لنتبيّن الأمر، فالرقيب، في نهاية المطاف، موظف، يتلقى إملاءاتٍ بضرورة الانتباه. وفوق ذلك، تُترك له صلاحية تحديد الكتاب الذي يجب منعه من سواه. إنه يتحوّل، في تلك الأثناء، إلى سلطة منع وتجويز. يندسّ بين السطور ليجد مبتغاه. يتسقط النوايا ويصطاد الجمل ذات المعاني الصارخة أو المضمرة. هو في صراعٍ صامتٍ مع الكتاب. ولكنْ ماذا لو أغفلت عيناه عبارةً أو جملةً يجب أن تُمنع حسب وجهة نظره، أو بالأحرى وجهة نظر من يوظّفه لأداء هذه المهمّة المتسلّطة؟ لتجنّب هذا الإغفال، يبالغ في احترازات المنع، خصوصا أن كان مفهوم الرقابة لم يقنن أو يسطر في فقرات محدّدة واضحة، لصعوبة الأمر، والسبب، وهنا المفارقة الصارخة، أنه في أحيان كثيرة يتعامل مع كتابٍ أدبي، أي مع مادة متخيلة، لا قرائن جازمة تربطها بالواقع. لذلك نلاحظ أن رواياتٍ كثيرة كانت ممنوعة في زمنٍ ما أصبحت تباع في الأكشاك والأرصفة في زمن آخر.. ونتذكر هنا رواية "مدام بوفاري" للفرنسي فلوبير الذي اقتيد بسببها إلى المحاكمة في "عاصمة الأنوار".
عربياً، تعرّضت مؤلفات عديدة للحظر والحجب والتضييق، وتطول اللائحة هنا ويصعب حصرها، وربما كانت أشهرها "رسائل ابن عربي"، لشيخ المتصوفة ابن عربي، و"الملفات السرّية للحكام العرب"، لمايلز كوبلاند، و"نقد الخطاب الديني"، لنصر حامد أبو زيد، ورواية "العدامة"، لتركي الحمد وكتاب "قضايا المرأة والفكر والسياسة"، لنوال السعداوي، و"فرسان بلا معركة"، للصادق النيهوم، و"في الثقافة السياسية" لحسن حنفي؛ وغيرها.. وتحضرني رواية "الخبز الحافي" للمغربي محمد شكري، التي مُنعت من التداول في المغرب قرابة عقدين، لكنها صارت تباع الآن في الأكشاك وعلى الأرصفة. ترجمت إلى ما يناهز أربعين لغة، ونال كاتبها بفضلها شهرة عالمية. أتذكر جيدا أنني سعيتُ، وسعى أصدقاء لي بعدما انتشر خبر منعها في الثمانينيات، وكنت في بداية الدراسة الثانوية، إلى الحصول عليها من خلال كتّاب أكبر منا سنا كانوا يتردّدون على بيروت، حيث طبعت الرواية. وعلى الرغم من كل محاولاتنا لم تصل إلينا منها إلا نسخة مصوّرة ورقيا، وليس نسخة أصلية، فتداولناها بيننا سرّا.
ولكنّ هذا المنع شكّل، من حيث لا يدري الرقيب، "دعاية" قوية للرواية، تجاوز مفعولها أحلام الكاتب نفسه بالانتشار. كان للمنع، إذن، وجه آخر وأدى إلى نتائج عكسية، مخالفة لما استبطن الواقفون وراءه. لقد كان، في الحقيقة، إعلاناً ودعوة إلى الانتشار. فالرقيب، وهو يجحظ بعينيه بين الأسطر يبحث، في الحقيقة الفعلية ومن دون أن يشعر، عن مبرّرات انتشار الكتاب، وليس بالضرورة عن مبرّرات منعه. ليس فقط لأن "كل ممنوع مرغوب"، حسب المقولة الشائعة، وإنما كذلك لأن المنع، في ظلّ تنوع وسائط الاتصال وتعدّدها وتطورها، تذكيرٌ بوجود كتابٍ لافتٍ يستحق معاناة البحث عنه والاطلاع عليه. وما كان القارئ، وسط انشغالات الحياة وتعقدها وكثرة متطلباتها، ليلتفت إلى الكتاب الممنوع، لو لم يُسدِ إليه الرقيب هذا المعروف، بتنبيهه إلى وجود مؤلَّفٍ محظورٍ عليه أن يبحث عنه. ولن يطول بحث القارئ طويلا، ولن ينتظر قادمين من بيروت أو من القاهرة أو من بغداد أو الرباط، ليطلب منهم إمداده بكتابٍ ممنوعٍ في هذا البلد أو ذاك ليصوّره. سيكون الأمر في غاية السهولة، بسبب القرصنة المستفحلة وطفرة التكنولوجيا والتطور المتسارع للوسائط الإعلامية. سيصل إليه الكتاب حتما بقليلٍ من الصبر والإصرار.

دلالات

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي