ناجي العلي.. عن وطن لا تحجبه الخرافة والأصنام
بعد ثلاثين عاماً على اغتياله؛ لا يزال الفنان الفلسطيني ناجي العلي (1937 – 1987) الذي تصادف اليوم ذكرى استشهاده، يرسم معاني جديدة لحقيقة حياته ونضالاته وإبداعاته التي تلخّصها رمزية رحيله؛ شاهدة قبر تحمل رقم 230191 في مقبرة بروك وود في لندن، وليست في مخيم عين الحلوة الذي شهد ولادة الظل والضوء، ولا في قريته الشجرة في الجليل، وبين المكانين يخلد حنظلة وغضبه.
بين الشجرة وعين الحلوة، يطلّ حنظلة من علٍ على مآلات الوطن واللجوء الذي لم يُدفن في أيّ منهما بانتظار العودة ذات يوم قريب، وقد هجّر اللاجئون من جديد في سورية والعراق إلى جغرافيا لا تحدّها فلسطين، والتي رفض أيضاً أن تتبدّل خريطتها واسمها ولفظها ورموزها.
لم تتغيّر الحال التي هجاها ناجي، وكأن الزمن لم يمض فانقسامات الفصائل التي انتقدها مراراً، يدفع ثمن استمرارها الشعب الفلسطيني الذي تخوض قياداته صراعات على السلطة خارج أي مشروع تحرّر وطني، والأنظمة العربية تواصل تخلّيها عن القضية وأهلها حتى بالشعارات التي ظلّت ترفعها عقوداً، وانشغلت بحروب داخلية لحساب الغير.
كان موقناً أن اتفاقية كامب ديفيد، التي وقعها أنور السادات، ستفضي إلى متوالية من الهزائم والانكسارات للعرب جميعهم، وكان قلقه الأكبر طوال سنواته الأخيرة توقيع نسخة استسلام فلسطينية تكبّل أصحابها ولا تعيد الحقوق، لأن وجودها أساساً هو إلغاء للوجود الفلسطيني.
منذ رسمه الأول في صحيفة "الطليعة" الكويتية في ستينيات القرن الماضي، اختطّ ناجي دربه وأثّث رؤيته لفلسطين التي لم يرد أن تتحوّل إلى مجرّد أيقونة أو صورة على جدار، إنما وعى أن مواجهة العجز القائم تتطلب إرادة مستقلة وعقلاً حراً مكنّاه من تشخيص الحالة واستبصار المستقبل، وهو ما جسّده في جميع الصحف التي رسم فيها كـ"السياسة" و"القبس" الكويتيتيْن، و"السفير" اللبنانية.
40 ألف كاريكاتير في حوالي ربع قرن، مثّلت حالة استثنائية من المقاومة الفكرية والمعرفية والثقافية لكّل حالات القهر والعجز التي يعيشها المواطن العربي والفلسطيني، ويقرّر أن يعلن مواقفه تجاه كل الأحداث وتداعياتها من حوله، رفضاً للنزعات الانعزالية داخل طائفة أو مذهب أو حزب، وللاصطفاف مع أي عربي يقاتل أخيه، ولرؤى المهادنة والاستسلام.
استطاع ناجي العلي أن يؤسّس ضميراً جمعياً يلجأ إليه الفلسطينيون والعرب كلّما هدّهم التعب وأحسّوا بانسداد الطريق والأفق، فتؤكد رسوماته أنها ليست انفعالاً عابراً على احتلال وطنٍ وتشريد شعبه، إنما كانت وستبقى محكومة لرؤية نقدية لا تتزلّف سلطة ولا تُعين جلاداً ولا تنتصر إلا للحق.
ولأن الحق مفهوم وممارسة أخلاقية ونضالية جذرية، يحيا حنظلة اليوم رمزاً لتخليص العقل من الخرافة والأصنام حتى تتحرّر الأوطان وأبناؤها، الذين لا تخدعهم أوهام تشيد رايات وسجون وتماثيل زعماء على أرض منهوبة ومستلبة.