مَنـــازلُ البَــــرْق

مَنـــازلُ البَــــرْق

19 يوليو 2016
عمل فني لـ دولوني(Getty)
+ الخط -

1- فاطمة المرنيسي : "رسالة شهرزاد هي أن السّحْر بداخلك" 
لأنَّ فاطمة المرنيسي لمْ تَرحَلْ، آثَرْتُ ألاّ أكتُبَ عنها عنْدَ وفاتِها الفيزيائيَّة. رغِبْتُ في أن أنْأى بالكلمات عَن النَّبرةِ الجنائزيَّةِ الّتي كانتْ ستصْطَبِغُ بها حتْماً، فيما هي تتوجَّهُ إلى عالِمة اجْتِماعٍ زاخِرةٍ، وأُستاذةِ أجيالٍ مُقْتَدِرة، وسيّدةٍ جليلةٍ صاخبةٍ بالحياة. لا يُمْكِنُ تأبينُ ابْنةِ الحياة. خاصَّةً وأنَّ أغْلَب التَّأبين، في المسْلَكيّات الثّقافِيّة والسّياسيَّة على السّواء، تَبْرِئَةٌ للِذّمَّة، وسَعْيٌ غاشِمٌ إلى الاستعادة القَسْرِيَّة لوُجوهٍ كبيرَةٍ حرَّرَها الموْتُ لِيُلْحِقَها بأعْمارِها الثّانية الّتي لا تنْتَهي. لذلك تنْفَلِتُ فاطمة المرنيسي منْ كُلّ اسْتِردادٍ لتبْقى مُنْطلقةً وجامِحَةً وغَيْرَ مُهادِنَةٍ، تماماً كالأسْئلة الحارِقَة والحَفرِيّات الشّاهِقة الّتي أنْجزَتْها في أراضٍ مَمْنوعَةٍ ومُدَجَّجَةٍ بأعْتى الرَّقابات البطريرْكيَّة، ولِتَظَلَّ أعمالُها الغزيرةُ كاشِفَةً آليات "الجنْس كهندَسةٍ اجتماعيّة"، ومُضيئةً قامات "السُّلطانات المَنْسيّات"، ورافِعَةً الحِجابَ عن "الحريم السياسيّ في الإسلام" وعن "الحريم في الغرْب"، غيْر مُباليَةِ بالطَّلَقات التَّحْذيريَّة والرَّشقات المُباشِرة الّتي وَجَّهها لها حَرَسُ الأنْساق والحُدود، لأنَّ "الحُدود خَطٌّ وهْمِيٌّ في رُؤوس المُحارِبين" على حَدّ قَوْلِها هيَ الّتي كتَبتْ أنَّ "الكرامَةَ هِيَ أنْ يكونَ لَك حُلُم. . .حُلُمٌ قَوِيٌّ يمنحُك رُؤْيا وعالَماً لك مكانُك فيه..." وأنَّ "رسالة شهرزاد هِيَ أنَّ السِّحْرَ بداخِلِك...". أذْكُرُ أوَّلَ لِقاءٍ لي بِها مُنْذُ سنواتٍ بعيدَة، في سِياق عشاءٍ ثقافيّ، حيْثُ شاءت الصُّدْفة - الّتي غالِباً ما تكُونُ تَمَظْهُراً لِقانونٍ عميق - أنْ نَجْلِسَ مُتجاوِرَيْن إلى المائدة. وإذا بها تُفاجِئُني، بكُلّ تلقائيَّةٍ ونُبْل، بأنَّها أُعْجِبَتْ بِنَصٍّ لي كنْتُ نَشرْتُه قبْلَ أيّام أجَبْتُ بِهِ عنْ سؤالٍ وجَّهَتْه جريدة "الاتّحاد الاشتراكيّ" إلَيَّ وإلى بَعْضِ الأسماء الإبداعيَّة حول "علاقة الكتابة الأدَبيَّة بالأُمّ". وما لبِثَتْ أنْ لاحَظَتْ أنَّنا قَلَّما نأكُلُ، فسألتْني إنْ كُنْتُ أكَلْتُ شيْئاً قبْل مَجيئي، ولَمّا أجَبْتُها بالإيجاب قالتْ لي ضاحِكَةً :" أنا أيْضاً أكَلْتُ قَبْلَ مَجيئي... إيّاكَ أنْ تأتِيَ إلى مِثْل هذه المآدِب قبْلَ أنْ تأكُلَ قليلاً... لا تَنْسَ هذا أبداً...". لَمْ أنْسَ هذه الوصيَّة أبَداً، لأنَّني لا أنْسى الوصايا المُهْداة من طرف الوجوه العميقة السّاهرة منْ عيار وَجْه فاطمة المرنيسي.


2- امرؤ القيس : الأب الأكبر الحداثيّ للشعرية العربيّة
امْرؤ القيْس، الّذي تَهدرُ حتّى الآن، في قلْب كلماته وكلمات قَلْبه، جُغْرافيا الأرْض العربيَّة الأولى، وتُسْمَعُ بيْنَ تضاريس مُعَلَّقَته حَوافرُ جَواده المكَرّ المفَرّ، وَيَتَضَوَّعُ منْ حُروف غرامياته الوَثَنيَّة العطْرُ الصَّحْراويُّ لحبيبَته "عُنَيْزة" الّتي باتتْ مُمْتَدَّةً في الزَّمن بفَضْل شعْره، والّذي حَوَّلَ البَحْثَ عَن الثَّأْر لأبيه المَلك المُغْتال إلى مسار مَلْحَميّ وَسَطَ عَصَبيّات القبائل، وَنثَر ذَهَبَ قَصائده في كلّ فَجّ عميق، واسْتَنْبَتَ أَفْخَمَ الوُرود وأَبْقاها في البَراري والقفَار، وانْتَهى مُتَقَرّحَ الجلْد بحُلَّة مَسْمومَة "أهْداه" إياها مَلكُ الرُّوم بإيعاز منْ غريمه الطَّمّاح، وَاَدْرَكَهُ المَوْتُ قُرْبَ قَبْر امْرَأَة مَلَكيَّة في سَفْح جَبَل عَسيب فَخاطَبها : "أجارَتَنا إنَّ المَزارَ قريبُ / وإنّا مُقيمان ما أَقامَ عَسيبُ... أجارَتَنا إنّا غَريبان هاهُنا / وَكُلُّ غريب للْغَريب نَسيبُ."، امْرُؤُ القَيْس هَذا ليْسَ شاعراً جاهليّاً، بَل الأب الأكْبَر الحَداثيّ للشّعْريَّة العَربيَّة، وَعَصْره ليْسَ جاهليَّةً، لأنَّ الجاهليَّة الجَهْلاء هي الزّاحفَةُ الآن، بأمْواجها المُزَمْجرَة كأمْواج التْسُونامي، على العالَم العَرَبيّ منْ مَشْرق انْحطاطه إلى مَغْربه.

3- القراءة : سَفَرٌ في شعاب ليل المعنى
القراءةُ ليْسَتْ اسْتقْبالاً للكلمات، بلْ تَوَرُّطٌ فيها. إنَّها وَجْهٌ منْ وُجوه الشَّغَف الحُدوديّ. والكتَابُ ليْسَ وَرَقاً وحبْراً، بلْ جَسَدٌ حيّ وروحٌ مهاجرةٌ، هُمَا روحُ وجسَدُ كاتبه أوْ كاتبَته. أذْكُرُ أنَّ صحافيّاً فرنْسيّاً سافَرَ قبْلَ ثلاثة عُقود إلى روما للبَحْث عَن الكاتبَة الإيطاليَّة الشَّعائريّة إيلزا مورانطي لإجْراء حوار معها لمجلَّة
"ماغازين ليترير"، ولمّا يئسَ من العُثور عليْها (لأنَّها كانتْ أشبه بساحرَة تلوذ بكَهف سرّيّ) اتَّصلَ بزَوْجها السّابق، الرّوائيّ ألبرْتو مورافيا، ليطْرَح عليْه بعْض الأسئلة بخُصوصها. وبلَغها الأمْرُ فاستشاطَتْ غَضَباً، وهاتفَت الصّحافيّ، وقالتْ لَهُ مُوَبّخَةً: "أخْبَرني مورافيا أنَّكَ طلَبْتَ منْه معْلومات عنّي . لكنَّ مورافيا هو مورافيا، وأنا هي أنا، وأنا مَوْجودةٌ كُلّيّاً وَحَرْفيّاً في كُتُبي. . .". لذلكَ يَظلُّ الكتابُ، وَحْدَهُ، جسَدَ الكاتب(ة) الأعْمق والأصْدَق، والحَيّز المكَانيّ والزَّمانيّ والوجْدانيّ والرُّوحانيّ لتبادُل الضَّوء معه(ا) والسَّفَر برفْقَته(ا) في شعاب ليْل المَعْنى اللاّنهائيّ للعالَم اللاَّنهائيّ.


4- ديباجة لجنيالوجيا الأزرق
للأزرق - الطَّبيعيّ وليْس السّياسي أو الحزبي- في خارطة الوجود والزَّمن مكانةٌ مُنيفَةٌ، باعتباره لون الشّساعات البَحْريَّة، والمعارج السّماويّة، والشّفافيات الحُلُميَّة، كما أنّه، في دَرَجَته الغامقة، لوْن الأغْوار الأُوقيانوسيّة اللاّمَطروقة. إنّه الرَّمزُ الجذريّ الأعْلى للمياه البَدْئيّة الّتي أنْجبت الحياةَ بكُلّ بَذْخها النّباتيّ، وتَنَوُّعها الحيَوانيّ والبَشَريّ، والخُلاصة الجيو-فيزيائيّة السُّفْليّة المَهيبَة الّتي أثْمَرت، على امتداد ملايين السّنين من الاحتدامات في جوف الأرض، تلك الكائنات المُذْهلة المُسَمّاة أحجاراً كريمةً، كالعقيق الأزرق، وحَجَر التّرمالين النّادر، واللازورد المَعروف قديما بالعَوهَق، والزَفير الأزرق الّذي اسْتَشْعرَ فيه البوذيّون والقدّيسون تأثيرات روحانيّة وفضائل واقيةً. وبخلاف الأحمر، المَشْبوب والعاطفيّ والشّهوانيّ، فإنَّ الأزْرق - الرّمزيّ وليْس السّياسيّ - لوْنٌ حكيمٌ ورصين وَمتأمّل، ولذلك اقْترنَ بعتبات العُبور الماورائيّ في مخْيال الفراعنة الّذين بوّأوه مَرْتَبَةَ الحقيقة الإلهيَّة الحارسة للمَوْتى في جداريات أهْرامهمْ، مثْلما قَدَّسه نوفاليس، الشّاعرُ الكَوْنيّ، الّذي جَعَلَ من "الوَرْدة الزَّرقاء"اسْتعارةً لّـ "صوفيا"، حبيبته الشّابَّة الرّاحلة، ونداءً عميقاً زارهُ في الحُلُم ليَطْلُبَ منْه القيامَ بالسَفَر العظيم المُؤَدّي إلى "مشْرق الرّوح الأعْظم".

5- عتَبةٌ لتاريخ الأحمر
الأحْمَرُ يَليقُ بالعالَم بشقَّيْه : الغرامي والعنيف، ويُسَرْبلُهُ منذُ ما قبْل تاريخه السّحيق إلى حاضره المُطَوَّق بالحَريق. الأحْمَرُ لوْنٌ زاخرٌ وهادرٌ، وأساسٌ رَمْزيٌّ مَهيبٌ منْ أساسات العالَم المادّي والخياليّ والدّينيّ. اجْتَذَبَ ألَقُه الدّافقُ بالحياة عشتار فكانَ الرُّمّانُ الأحمرُ النّاضجُ فاكهَتَها المُقدَّسة، والْتَقى الجذْرُ التَّكْوينيُّ لاسم "آدَم" بأديم الأرْض الأمْغَر المائل للحُمْرة، فيما تَداخلَ هذا الاسمُ صوَاتيّاً وإيتيمولوجيّاً بلَفْظة "الدَّم" الّذي أغْدقَتْ عليْه اللُّغَةُ العربيَّةُ الخصيبةُ اسماً فاخراً آخَرَ، قليلَ التّداوُل، هو "النُّعْمان" الّذي اقْتَرنَ نباتيّاً بأَزهار "شقائق النَّعْمان" المَعْروفَة أيْضاً بـ "أزهار الدَّم"، وهي الأزْهار الّتي تقول الأُسْطورة العربيّةُ القديمةُ أنَّها نبتَتْ على قَبْر النّعمان بن المُنْذر، ملك الحيرة، الّذي داسَتْهُ فيَلَةُ كسْرى خسْرو عقاباً لَه على رَفْضه تْزْويجَ هذا الأخير ابنتَه. ورَغْمَ التَّدرُّجات اللّوْنيّة العديدة والفاخرة الّتي يضجُّ بها الأحْمر، إلاّ أنّ أعْلى درجاته الرّمزيّة دَرَجتان رئيسَتان هُما الأحْمَر النّاصع، النّهاريّ، رمْز الذُّكورة، والحماسة، والصّخَب، وسُلْطة الظّاهر، والأعلام والرّايات والألْويَة، والأحْمَر القاتم، اللّيْليّ، رمزُ الأنوثة، ووَرْدة الشَّغف، والسّرّ، والقلب، وقُوَّة الرّوح، ونَشيد البدايات.

المساهمون