مي المصري: ثلاثة آلاف ليلة وما بعدها

مي المصري: ثلاثة آلاف ليلة وما بعدها

09 يناير 2018
(مي المصري من فيلمها الوثائقي "أطفال شاتيلا"، 1998)
+ الخط -
"الصعوبة وعدم القدرة على التصوير يصبحان الموضوع أحياناً"، تقول المخرجة الفلسطينية مي المصري، ضمن جولة العروض التي قُدّمت مؤخراً من فيلمها "3000 ليلة" في مدن أميركية. "العربي الجديد" التقت بها في نيويورك، في حديث تجاوز الفيلم إلى مجمل مشوارها الإبداعي.

■ "3000 ليلة"، هو فيلمك الروائي الأول. لماذا قرّرت خوض تجربة الفيلم الروائي بعد مسار طويل في السينما الوثائقية؟

- بالنسبة لي، ليس هناك فرق كبير بين الروائي والوثائقي. وهذا العمل هو تكملة لتجربتي في الأفلام الوثائقية، على خلفية أنه مستوحى من قصة واقعية صادفتها خلال عملي على فيلم وثائقي آخر. يتيح الفيلم الروائي الكثير من الحرية الإبداعية، خاصة في ما يتعلق بالبناء الدرامي للقصة، وإن كان في الفيلم الوثائقي أيضاً الكثير من الإبداع. في هذا الفيلم، وعلى الرغم من أن الأحداث تدور حول قصة بعينها، فإننا نضع الخاص في سياقه الأكبر؛ الاجتماعي والإنساني، خصوصاً المعاناة تحت الاحتلال.


■ كيف كانت هذه التجربة مقارنة بتصوير الأفلام الوثائقية، وكيف تجسّدت هذه الاختلافات بالنسبة لك؟

- الفيلم مبني على قصة أسيرة محررة التقيت بها خلال الانتفاضة الأولى، عام 1987، وحدثتني عن تجربتها القاسية وتأثرت بها. بقيت الفكرة في بالي وأنجزت - منذ ذلك الوقت - عدداً كبيراً من الأفلام وقرّرت قبل فترة العودة إلى تلك التجربة وتجسيدها في فيلم وثائقي. أجريت العديد من المقابلات مع أسيرات سابقات، وعلى أساسها أنجزت الفيلم مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية التي كان يمرّ بها الشعب الفلسطيني في تلك الفترة، خاصة أوضاع السجناء السياسيين. حاولت تصوير الفيلم، على الرغم من التحضيرات الكثيرة، بطريقة قريبة للواقعية أو السينما الوثائقية. على سبيل المثال صوّرنا في سجن عسكري سابق في الأردن. هذا أعطى للفيلم زخماً حقيقياً على مستويات عديدة، من بينها الجمالي، فضلاً عن صدمة الوجود في السجن التي شعر بها فريق العمل. أغلب الممثلين/ات عاشوا تجربة السجن، لأن أغلب الفلسطينيين عاشوا تجربة السجن، إما بشكل شخصي أو عن طريق شخص يعرفونه. يوجد أكثر من 800 ألف فلسطينيي سُجنوا على الأقل مرة واحدة في حياتهم منذ عام 1967 في سجون الاحتلال الإسرائيلي. واحدة من الممثلات، ختام إدلبي من عكا، أدّت دور سجينة إسرائيلية، وعندما وصلنا إلى مكان التصوير أصيبت في البداية بنوع من الانهيار، لأنها عادت إلى صدمة فترة سجن أخيها وما عايشته كطفلة. وكان أخوها من السجناء السياسيين الذين أفرج عنهم في عملية تبادل أسرى في الثمانينيات من القرن الماضي. المثير أنها أدّت، وببراعة، دور سجينة إسرائيلية وهو معاكس لواقعها. موضوع الأسرى، والأسيرات على وجه التحديد، منسيٌّ بعض الشيء. الأسيرات معاناتهن مضاعفة في السجون كنساء، خاصة الأمهات اللواتي اضطررن لإنجاب أطفالهن في السجن. وإضافة إلى معاناتهن السياسية فهن كذلك يعانين اجتماعياً. وهذا موضوع حساس، حاولت معالجته من بابه الاجتماعي والسياسي.


■ اشتركت في إنتاج الفيلم إضافة إلى مُنتجتين أخريين. كيف ترين قضية الإنتاج السينمائي، والأجندات التي يمكن فرضها، ليس فقط على المستوى السياسي، بل كذلك على المستوى الجندري؟

- في هذا العمل المُنتجات نساء، وكذلك أغلب الممثلين في الفيلم من النساء والأدوار الرئيسية هي لنساء. إنتاج فيلم من هذا القبيل صعب وموضوعه حساس. الفيلم إنساني بالدرجة الأولى حتى لو كان سياسياً، وهذا يحدّ من فرص الحصول على إنتاج. أكثر المخرجين المستقلين يضطرون لجلب تمويل ذاتي وعائلي أو تمويل شعبي عن طريق الصفحات الخاصة. هناك دول يمكن أن نستفيد من تجاربها الإنتاجية كالمغرب وتونس، ومصر سابقاً، ولكن لا توجد قاعدة أو بنية تحتية وسياسة ثقافية إنتاجية في فلسطين أو للفيلم الفلسطيني، وهذا يضطر المخرج للتأخر بين العمل والثاني. حتى الجوائز، التي تجذب الانتباه لعمل المخرج وتعطيه شهرة (حصد هذا الفيلم 24 جائزة) قد تسهل الكثير من الأمور، لكنها للأسف لا تضمن الحصول على تمويل بشكل سهل، خاصة أن أفلامي تتناول مواضيع سياسية. من الضروري النظر للسينما كتاريخ الشعوب البديل، ما يعني أننا كمخرجين علينا أن ندفع الثمن من ناحية الحصول على تمويل لإنتاج الأفلام، ولكن بالنسبة لي الأهم أن يكون ضميري مرتاحاً.


■ دعيني أعود إلى بداياتك. عن دراستك وسكنك في الولايات المتحدة ولماذا اخترت دراسة السينما؟

- أبي نابلسيٌّ، وأمي أميركية وولدتُ في عمّان وعشت أغلب الوقت في بيروت، إذ انتقلت إليها وعمري خمس سنوات. ذهبت إلى سان فرانسيسكو للدراسة وعمري 17 عاماً، وعندما عدت إلى بيروت كانت الحرب الأهلية قد بدأت. تأثر وعيي السياسي كثيراً بالحياة البيروتية وبتلك الفترة. لبنان فيه خليط اجتماعي وزخم سياسي، وخاصة عندما كانت قيادات الثورة الفلسطينية في لبنان، فضلاً عن المنفيين من كل أنحاء العالم العربي الذين جاؤوا إلى بيروت التي كانت عاصمة ثقافية وسياسية. وبعد العودة التقيت بجان شمعون وتزوّجنا وبدأنا نعمل معاً في عام 1982 خلال حصار بيروت.


■ سأعود إلى جان شمعون والعلاقة معه كزوج ومخرج لاحقاً. ولكن قبلها أريد أن أعيدك إلى سان فرانسيسكو، حيث عشت بها خلال فترة شهدت فيها المدينة والجامعات الكثير من الحركات الطلابية واليسارية التي انتقلت شرارتها إلى أماكن أخرى في الولايات المتحدة. هل لك أن تحدّثينا أكثر عنها؟

- ذهابي إلى سان فرانسيسكو كان مصادفة، لأن أخي كان يدرس فيها. عندما وصلت إلى هناك اكتشفت الخليط الثقافي الذي تحتويه واكتشفت تجارب جديدة، وحتى على مستوى التعرّف على عرب آخرين. الدخول إلى السينما كان مصادفة، إذ حضرت حصة عن السينما، وكنت كالذي يقع في الحب من أول نظرة. أعتبر أنّ في ذلك الكثير من الحظ.


■ كيف تصفين مرحلة عودتك من سان فرانسيسكو إلى بيروت والحرب الأهلية؟

- كانت هذه من أصعب المراحل، أقصد الاجتياح، ولكنها هيّأتني لما سأصادفه بعدها في الحياة. كانت حرباً قاسية وأثرت فيّ كثيراً؛ إنسانياً وسينمائياً. اضطررنا للخروج من لبنان عام 1983 بعد مجازر صبرا وشاتيلا، كما تم اختطاف الكثير من الناس وكانت مرحلة خطرة. اضطررنا للمغادرة إلى باريس وكنا نعود إلى بيروت لتصوير أفلام. فترة باريس كانت مهمة لأنها منحتنا شبكة من العلاقات ساعدتنا في أفلامنا، ولاحقاً في إنكلترا كذلك. عدت إلى فلسطين لأول مرة في الانتفاضة الأولى وكانت تلك أول مرة أرى فيها فلسطين. وأعتبر أن تجربتي في الانتفاضة الأولى كانت التجربة الثانية الكبرى والمهمة في حياتي التي أثرت فيّ كثيراً مع تجربة الاجتياح في بيروت. في المعيشة في بيروت، كانت قضية الهوية دائماً موجودة، ولا يمكنني أن أنسى أنني فلسطينية ولم تكن هذه هوية ولدت بها فقط، بل كانت خياراً واعياً. الذهاب إلى المخيّمات ورؤية ما يحدث هناك، تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، فضلاً عن القصف الذي كان دائماً على المخيمات، ولّد عندي الكثير من الغضب والسؤال حول الهوية وأدركت أنه لا يمكنني أن أنسى من أنا وأنني ابنة الشعب الفلسطيني.


■ على ذكر المخيمات الفلسطينية، هناك تهميش شديد لقضية اللاجئين، خاصة بعد "أوسلو". كيف ترين ذلك كفنانة ومبدعة؟

- التقصير كبير وعلى صعد كثيرة. في لبنان، على سبيل المثال، يمنع اللاجئون الفلسطينيون من العمل والملكية حتى اليوم. ثمة إحساس قوي بالمرارة عند اللاجئين الفلسطينيين تجاه القيادة الفلسطينية، خاصة بعد صبرا وشاتيلا، حيث جرى تركهم لمصيرهم. وعلينا أن نتذكر أن قواعد الثورة وشهداءها كانوا من المخيمات. طبعاً، جاء "أوسلو" وتم نسيانهم وتهميشهم أكثر. إضافة إلى التقصير من الأنظمة العربية والقيادة الفلسطينية هناك تقصير من الطبقات الفلسطينية المرتاحة أو جزء منها، التي يمكنها أن تساعد أكثر. لكن يبقى الأمل موجوداً على الرغم من الهجرة والمشاكل الاجتماعية. للمبدع مسؤولية تفوق عمله الإبداعي، وعليه أن يكون في تواصل مع الواقع ويقدّم ويدعم كذلك بكل طريقة ممكنة غير عمله الإبداعي، سواء كان ذلك بدعم مشاريع التعليم أو غيرها. رصيد الفلسطيني هو التعليم. يوجد وعي بهذا الأمر، وأحاول أن أدفع بهذا الاتجاه، وهذا مسؤولية كل شخص، والمبدع على رأسهم، ولا يكفي أن أخرج الأفلام وأترك الناس وحدهم.


■ تحدثتِ في إحدى المقابلات عن قضية الخوف عندك. وقلت إن العمل خلف الكاميرا كامرأة كانت له أهمية. عند الحديث عن الخوف ما الذي تقصدينه وكيف تتعاملين معه؟ وفي هذا السياق ماذا عن الصدمة الجماعية (تراوما) جراء ما يحدث من نكبة مستمرة للفلسطينيين؟

- الصدمة الجماعية موجودة. وأحاول أن أعطي صوتاً للناس من خلال الأفلام. ولكن الخوف الذي أتحدث عنه هو خوف، بكل معنى الكلمة، عندما أصوّر، خلال القصف أو الحروب والمجازر. الكاميرا تعطيني قوة تساعدني على تجاوز الخوف الذي أواجهه في تلك اللحظة. وتعطيني الشعور بأنني لست شخصاً مستسلماً أو خاملاً، بل إنني شخص فعّال وأستطيع أن أواجه.


■ كيف كانت عودتك الأولى إلى فلسطين ولقاؤك مع المكان الجغرافي والمتخيل؟

- ذلك اللقاء مع الوطن كان فيه الكثير من الزخم وجسّد حلماً على أرض الواقع. جاء في فترة الانتفاضة الأولى، وفيها كان الكثير من التجارب الإنسانية الجميلة. ذهبت إلى جميع أنحاء فلسطين بالكاميرا. شعرت بأن هذه الأمكنة "المستحيلة" صارت صوراً بين يديّ. مدن مثل عكا وحيفا ويافا ونابلس والقدس. أحسست أن ذلك زادني قوة، وكان نوعاً من استرجاع المكان وحيازته. كنت أعيش الانتفاضة بيومياتها في بلدة مختلفة وهي نابلس، حيث انطلقت الانتفاضة منها ومن غزة. دخلت إلى نابلس سراً وبصعوبة، إذ أعلن الاحتلال الإسرائيلي أنها منطقة عسكرية مغلقة. كنت مهيأة نفسياً، من تجربة لبنان. دخلنا وجنودُ الاحتلال في كل مكان. وسقط عدد من الشهداء. كنت في مكان يعني لي الكثير، بلدة أبي، وفيها الكثير من الأقارب. تمكنّا من البقاء والتصوير، لأن الناس ساعدونا وشعروا بقيمة الصورة وأهميتها كشاهد على الاحتلال. كان تصويراً سرياً وتجنّد كل من حولنا لمساعدتنا لتهريب الأفلام وغيرها. تعلمت كذلك أن الصعوبة وعدم المقدرة على التصوير أحياناً هما الموضوع.


■ أخرجت الكثير من الأفلام مع رفيق دربك وزوجك جان شمعون الذي رحل قبل أشهر بعد صراع مع المرض. كيف تتعاملين مع هذا الفقدان؟

- اليوم حلمت به وأحسّ أنه موجود الآن أكثر من أي وقت مضى. لقد مرض جان قبل رحيله بفترة وغاب عني جان الذي عرفته لسنوات. الآن استرجعته، كحبيب ورفيق وسينمائي، ولأنه يوجد بيننا هذا الرصيد من العمل المشترك أشعر بأنني أكمل ما بدأناه معاً. كذلك انضمّت ابنتانا إلى العمل السينمائي، إذ عملتا معي في الفيلم الأخير. الحزن يصبح حافزاً لعمل شيء آخر وعندما يعيش الشخص تجربة صعبة يكون أقرب من الناس. جان موجود معي وهذا الإحساس الذي عندي. وبعد رحيله، قمنا بتكريمه وإصدار كتاب. نظّمت حفل تكريم كبيراً في بيروت وكان مهماً بالنسبة إلي أن يعود الناس ليكتشفوه ويتذكروه والأهم هو ما يتركه الإنسان وراءه.


■ تحدثتِ في أكثر من مناسبة عن تجربتك وعملك كامرأة. إلى أي مدى، برأيك، هناك دور للتجربة الجندرية في العمل الإبداعي؟

- في الماضي، كنت أعتقد أنه لا يهم من يقف خلف الكاميرا، المهم أن يكون جيداً وواعياً للكثير من الأمور. مع الوقت أعتقد أن هناك نظرة معينة مختلفة، نسوية، ليس بالمعنى المغلق للكلمة. أنا أصبحت نسوية ربما بالممارسة. هناك طاقات كبيرة تتفجّر في المجتمع العربي. المرأة طاقة كبيرة وهذا عصرها بكل إيجابية. كنت أقول إن هذا عصر المرأة، ويمكننا أن نفتخر فلسطينياً بأن الكثير من الأفلام ذات المستوى العالي التي يتم إخراجها في فلسطين هي لمخرجات نساء وهذا أمر علينا أن نفتخر به، بدون أن نغفل التهميش الحاصل طبعاً.


■ هل هناك نصائح معيّنة تقدمينها للمخرجين/ات الشباب أو المبدعين عموماً؟

- العمل بصدق وعدم المهادنة أو التنازل عن الأفكار تحت الضغوطات. هناك ضغوطات كبيرة وهذا مجال صعب والعمل الدؤوب مهم. وطبعاً الشغل بإبداع ضروري جداً. ونحن نعمل فناً وليس سياسة فقط. إذن من المهم توفّر الصدق والإبداع والإنسانية. يهمّني، في ما يخص أفلامي، رأي الفلسطينيين فيها والعرب قبل المشاهد الغربي. وخصوصاً الإنسان العادي وهذا يعني لي الكثير.


سيرة

طوال مسيرتها التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، قدّمت مي المصري (عمّان، 1959) أكثر من عشر أفلام وثائقية، تميّزت على المستوى الفني، وكذلك من حيث مواضيعها التي تناولت فترات مفصلية في تاريخ فلسطين الحديث بشكل خاص، وتاريخ العالم العربي عامة. واشتركت في جزء من أعمالها السينمائية مع رفيق دربها وزوجها المخرج اللبناني الراحل جان شمعون (1944 - 2017).

خاضت المصري تجربة إخراج فيلم روائي لأول مرة مع "3000 ألف ليلة" وهو آخر أعمالها الذي جرى إنتاجه في 2015. وقد حصد العديد من الجوائز البارزة في مهرجانات عالمية وعربية من بينها جائزة التحكيم عن "مهرجان سينما المرأة" في لوس أنجليس الأميركية، وجائزة الجمهور عن مهرجان مدينة بلد الوليد في إسبانيا، وجائزتَي "التانيت البرونزي" وأفضل سيناريو خلال دورة "أيام قرطاج السينمائية" في تونس عام 2016.

وكانت المخرجة الفلسطينية قد حازت قبل ذلك على جوائز عديدة عن أفلام سابقة وتم تكريمها مع جان شمعون في مهرجان "كان" في فرنسا. ومن ضمن أفلامها الوثائقية نذكر: "أطفال النار" (1991)، و"أطفال شاتيلا" (1998)، "33 يوم" (2007). ومن أفلامها المشتركة مع جان شمعون: "تحت الأنقاض" (1982)، و "زهرة القندول" (1985)، و"يوميات بيروت" (2006).

دلالات

المساهمون