مونودراما "زيارة ذاتيّة": حمامة زوسكيند في دمشق

مونودراما "زيارة ذاتيّة": حمامة زوسكيند في دمشق

07 يونيو 2015
مشهد من المسرحية
+ الخط -

كانت للمسرح الراقص في سورية صورة ثابتة قبل عام 2011. تحتلّ نصفها الأول الفرق الشعبية، كـ"إنانا" و"أورنينا". أمّا على الجانب الآخر منها، فتقبع العروض التي ينتجها قسم الرقص في "المعهد العالي للفنون المسرحية". تضاف إلى ذلك استثناءات قليلة تشغل مساحات تكاد لا تُرى من هذه الصورة. صورة مزّقتها رياح التغيير، وفشلت عروض المجموعات التي كانت تعتمدها الفرق الراقصة الشعبية حتى سقطت وتوارت عن المشهد نهائياً. أما عروض الرقص التعبيري التي ينتجها المعهد، فبدأت تدور على ذاتها من دون أن تقدّم جديداً على صعيد الحركة والبناء.

في هذا السياق يأتي عرض "زيارة ذاتية"، أداء وإخراج حسين خضّور ودراماتورجيا هبة محرز، ليقدّم نفسه بشكل مختلف عن العروض المألوفة في سورية. وفي القاعة المتعددة الاستعمالات في "دار الأوبرا"، قدّم خضّور عرضه المأخوذ عن رواية "الحمامة" للكاتب الألماني باتريك زوسكيند.

تصوِّر القصة حياة رجل قضى أكثر من نصف عمره في العمل كحارس لأحد البنوك، متصالحاً مع الروتينية القاتلة إلى أن تزوره الحمامة، إنها زيارة بمثابة نظرة إلى الذات المقهورة في المجتمعات الحديثة.

تمكّنت محرز، مُعدّة النص الروائي للمسرح، من ضبط الحكاية وتقديمها في أربعين دقيقة، بحيث لا يلتبس على المتلقي فيها خط الحكاية المتصاعد. بينما ذيّل خضّور عنوان عرضه بعبارة "مسرح جسدي"، فاللغة التي يتكلمها العرض هي الجسد.

من هنا، كان لزاماً أن تكون هذه اللغة مضبوطة واضحة لتكمل ما فعلته محرز من مسرحة العمل السردي وتشذيب لأطراف الحكاية لتحديد الزاوية التي سيقدم من خلالها العمل على الخشبة. إلا أن هذه اللغة شابها الكثير؛ فبعد أن تمكّن المؤدي، في الربع الأول من العرض، من عكس الحالة الشعورية التي تمر بها الشخصية من روتين قاتل، تَراجَع الأداء في ما تبقى من العرض، وعجز الممثل عن المحافظة على المستوى نفسه من الأداء، فكانت الحالة الدرامية تتصاعد، فيما تتناقص طاقة خضّور؛ حتى جاء مشهد انفجار الشخصية وثورتها ـ مشهد الذروة في المسرحية ـ ضعيفاً واهناً لا يرقى لفكرة الحرية المراد تقديمها.

لم يستفد خضوّر بشكل جيّد من التحوّل الذي طرأ على الشخصية من الميكانيكية والانصياع المرتبطين بعمله حارساً لسنوات، إلى أن أصبح الشخص الثائر والحر، فلم يظهر التغيّر على حركة الجسد، وربما كان من الأجدى أن يضيف الممثل إلى أدائه الرقص أيضاً. علاوة على ذلك، وقعت بعض مقاطع العمل في الإطالة، فقد امتدّ أحد المشاهد التي تصوّر الحارس وهو يأكل وجبته الجاهزة قرابة ست دقائق، صمتت فيها الموسيقى وثبتت الإضاءة، فغدا الإيقاع فيها ثقيلاً على المتلقي وضَعُف أداء خضّور في اختبار التمثيل هذا.

من جهة أخرى، استغل العرض الصالة المتعددة الاستعمالات على أفضل وجه عبر تقسيم الخشبة إلى فضاءين؛ الأول داخلي في عمق الخشبة يصوّر مكان إقامة حارس البنك، والثاني في المقدمة يدلّل على الفضاء الرحب الذي يحلم الحارس بالوصول إليه. تُضاف إلى ذلك شاشة في المنتصف يُعرض عليها مشهد يصوّر حركة السير والبشر في أحد نهارات العاصمة. المادة الفيلمية هنا تنطلق من عين الحارس مصوِّرةً حالة التكرار التي تراها العين من مرور سيارات وناس وما إلى ذلك.

لكن الإطالة في عرض المادة الفيلمية أثّر سلباً على إيقاع العرض، خاصة أن ما يُعرض على الشاشة لا يحمل في ثناياه أية مادة فنية أو جمالية، فكانت الكاميرا تصوّر الواقع كما هو. كذلك الحال مع المباشرة الفجة التي تعامل فيها العرض مع فكرة "الحمامة"، الحامل الأساسي لثورة الحارس، حيث اختزلها المخرج في فيديو لحمامة تطير في فضاء مفتوح، وهذا ما يتناقض مع بنية العرض التي تسعى إلى الكناية والتورية بدلاً من الطرح المباشر الواضح.

وضع خضّور نفسه في رهان كبير حينما اختار أن يكون وحيداً على الخشبة، ما ألقى على كاهله مهاماً مضاعفة في الأداء؛ كالمحافظة على إيقاع العرض في الأوقات التي تغيب فيها الموسيقى وتثبُت الإضاءة ويبقى الجسد وحده.

في ما يخصّ الموسيقى، فرغم بساطة المادة الموسيقية التي ألّفها حسين عطفة، إلا أنها كانت عاملاً أساسياً في شد إيقاع الحركة. ففي المَشاهد التي توقفت فيها الموسيقى، كان إيقاع العرض يتراخى وتخفت طاقة المؤدي الذي وجد صعوبة في ملء الفراغ الذي يُحدثه غياب الموسيقى، كذلك الحال مع المَشاهد التي ثبتت فيها الإضاءة.

لا يغفر البحث في أماكن جديدة من المسرح الراقص المشاكل التي وقع فيها عرض "زيارة ذاتية". فبعد اختبار نجاح الجدية والجِدّة، يبقى نجاح التنفيذ الخطوة التي تجعل من هذا العرض أو ذاك، عرضاً جميلاً، ممتعاً، جيداً ينطق بروح الآن/ هنا. ولا سيما أن أخطاء التنفيذ هذه تصبح مواقع ضعف، يهاجم منها أولئك المتمترسون خلف الأشكال المسرحية القديمة والرثّة.

دلالات

المساهمون