رامون رودريجز فيرديجو، أو "مونشي" كما يُطلق عليه داخل الأوساط الإسبانية الكروية، إنه الرجل الذي صنع نادي إشبيلية، وأحد أهم العقول الذكية التي تحارب الغلاء بالاستغناء عن الصفقات باهظة الثمن، والتركيز على الأسماء الصغيرة التي تجلب البطولات، وتدر الدخل الكبير عند بيعها إلى أحد أباطرة الليجا أو أندية أوروبا الغنية، هكذا نجح المدير الرياضي للنادي الأندلسي في وضع فريقه على الخريطة الرياضية، وانتشاله من قاع الدرجة الثانية إلى مصاف الكبار خلال سنوات قليلة منذ بداية الألفية الجديدة.
ارتبط اسم مونشي خلال الأيام الماضية بناديي برشلونة وبايرن ميونخ، وذلك لأن إدارة النادي الكتالوني تريد المدير الرياضي مكان أندوني زوبيزاريتا، الحارس السابق الذي لم يجد النجاح الحقيقي بعيداً عن أجواء المستطيل الأخضر. أما جوارديولا مدرب النادي البافاري فيتصل كثيراً برجل إشبيلية من أجل جلبه إلى الأراضي الألمانية، ومساعدته في بناء بايرن النسخة الجديدة، في تحديه الصعب مع مبادئ كروية تختلف كثيراً مع أفكاره الفنية.
رجل المستحيل
ولكن لماذا تصر الأندية الكبيرة على التعاقد مع الإسباني المغمور، وما القيمة المضافة التي يُتقنها مونشي ولا تتواجد في أحد غيره؟ إجابة هذه الأسئلة تحتاج إلى ضرورة العودة إلى البدايات، وعمل "فلاش باك" سريع إلى مشارف سنة 2000، حينما هبط الفريق إلى دوري الدرجة الثانية، وواجه النادي مشاكل صعبة على صعيد الناحية الفنية ونظيرتها المادية، وتوقع الجميع استمرار السقوط وانتهاء اسم إشبيلية من سجلات الكرة في بلاد الماتادور.
وجاء المدير الرياضي الشاب وبدأ العمل مع الرئيس القديم روبرتو أليس، وكانت مهمته الأساسية وفق تصريحاته القديمة لشبكة "أخبار الليجا"، متابعة كافة الأسماء المغمورة في الأندية الإسبانية؛ وذلك من أجل الحصول على خدماتها قبل أعين الفرق الكبيرة، مع الاهتمام بقطاع الناشئين وإعادة هيكلته، حتى تتم صناعة أسماء مميزة يستطيع النادي الاستفادة منها وبيعها لتحسين الجانب الاقتصادي السيئ.
وبعد عدة سنوات، استثمر النادي أكثر من 300 لاعب في مختلف أندية إسبانيا وأوروبا، وصنع لنفسه اسما كبيرا وسط الملاعب، وعاد مرة أخرى إلى الدوري، وفاز ببطولة الدوري الأوروبي ثلاث مرات خلال السنوات العشرة الأخيرة، كذلك نافس بشدة على لقب بطولة الدوري في ظل سطوة البارسا والريال، وخطف بعض البطولات المحلية الأخرى ككأس الملك، ليضع نفسه على مقربة من كبار البطولة الإسبانية على المدى البعيد.
أسلوب نجاح
كرة القدم صناعة، يؤكد مونشي بأن اللعبة باتت أقرب إلى فن إدارة المشروع، وأنها أصبحت أكثر عالمية، وكما أدخل أريجو ساكي وأقرانه فكرة العولمة في التكتيك الكروي، فإن مونشي وأصدقاءه استخدموا نفس المفهوم في الإدارة الرياضية. دول مثل كازاخستان، التشيك، مع أندية قارة أفريقيا، من الممكن بسهولة متابعة لاعبيهم بعد انتشار شبكات الاتصالات والإنترنت، وذلك عن طريق فتح قنوات اتصال مستمرة مع وكلاء هذه المناطق، والعمل على الاستفادة القصوى من أصحاب المهارات الحقيقية داخل هذه البلاد.
كذلك محاولة كشف الكنز الخاص ببطولات الناشئين والفئات السنية الصغيرة، لأن اللاعب وقتها يكون في بداياته، ويمتاز بالمرونة التي تجعلك قادرا على تكوينه وفق ما تريد، وأبسط دليل على ذلك، النجم البرازيلي داني ألفيش، الذي تمت متابعته في مونديال الشباب، ومن ثم الحصول على خدماته، وبيعه لبرشلونة بعد عدة سنوات، وتحقيقه نجاحا إعجازيا مع كافة الفرق التي لعب لصالحها حتى اليوم.
ويعترف مونشي بأن منافسة الأندية الإنجليزية والإسبانية أمر غاية في الصعوبة، بسبب الناحية المادية القوية لهذه الفرق، لكنه يعرف كيف يتعامل مع الأجواء الصعبة، وإذا خسر لاعبا لمصلحة فريق ما، فإنه قادر على تعويضه بلاعب آخر، لأن السر ليس في شراء اللاعب، بل في تحقيق هامش ربح من بيع نجم وتعويضه باسم آخر.
وهذا ما حدث حينما تم بيع باتيستا بمبلغ يصل إلى 30 مليون يورو، ودرست إدارة إشبيلية أكثر من اسم، وكان الفيصل دائماً في السعر وأرقام اللاعب الجديد، لذلك تم شراء كانوتيه بمبلغ 10 ملايين يورو فقط، ولكن مع إحصاءات تؤكد حاسته التهديفية الواضحة، وهذا ما حدث فيما بعد، لأن العبرة ليست بعقد الصفقة، بل بكافة الدراسات التي تحدث قبل وأثناء العملية، لأن الكرة الحديثة خاصة بالاستراتيجيات الرقمية، وكيفية الوصول لها.
صانع إشبيلية
يتحدث الصحافي المختص بالشأن الرياضي الإسباني "جراهام هانتر"، ويصف مونشي بأنه الشخص الذي صنع نادي إشبيلية، ولولاه لما عرف العالم هذا الفريق خلال السنوات الأخيرة، ويستمر الكاتب في الحديث مؤكداً أن نموذج إشبيلية هو الأنجح على الإطلاق في الكرة الأوروبية، بشكل أكبر من دورتموند وأتليتكو مدريد وأسماء أخرى، لأن النادي الأندلسي جاء من أسفل القاع، ولم يحقق بطولة وأخرى فقط، بل فاز بثلاث بطولات أوروبية وبطولتين للكأس ومجموعة أخرى من الإنجازات، لذلك يستحق مديحا من نوع خاص.
بدأ صيت مونشي يأخذ منحى آخر منذ عام 2003، حينما نجح النادي في بيع خوسيه أنطونيو رييس إلى آرسنال، وبعد فترة ليست بالكبيرة، حصل النادي على أموال أكبر نتيجة انتقال سيرخيو راموس والبرازيلي باتيستا إلى ريال مدريد، وقامت الصحف الإسبانية بإطلاق لقب "الحاد" على مونشي، وذلك بسبب تعصبه الشديد خلال المفاوضات، وإصراره على طلبات ناديه بطريقة قوية غير قابلة أبداً للنقاش أو الأخذ والرد.
ولنا أن نتخيل هذه الأسماء،"داني ألفيش، كانوتيه، باتيستا، لويس فابيانو، راموس، رييس، بالوب، ريناتو، أدريانو، جاري ميديل، كوندوجوبيا، سيدو كايتا، نافاس، نجريدو، بولسن، مورينو، دييجو لوبيز، إيفان راكيتتش"، كل هؤلاء النجوم مروا من ملعب البيثيخوان وتألقوا بقمصان إشبيلية، بالإضافة إلى الأسماء الحالية ككارلوس باكا، ودينيس سواريز، وبقية رفاق أوناي إيمري في بطولة الدوري.
نجاح مونشي ليس وليد الصدفة، لأنه صنع الجيل التاريخي الأول لإشبيلية الذي حصد ألقابا عديدة منتصف الألفية، ونافس على الدوري حتى الرمق الأخير. وبعد الفجوة الشاسعة بين القطبين بارسا-ريال، وبقية الأندية الأخرى بسبب عوائد البث غير العادلة من وجهة نظر معظم فرق لا ليجا، هبط مستوى إشبيلية بعض الشيء وابتعد النادي عن منصات التتويج، لكنه عاد مرة أخرى خلال السنوات الأخيرة، بسبب قدرته على التقاط الأسماء المغمورة والتعاقد مع النجوم الشبان، حتى حصد اللقب الأخير على حساب بنفيكا، ووصل إلى النهائي الأوروبي العاشر له أمام ريال مدريد في بطولة السوبر الأخيرة.
برشلونة وبايرن
يعاني برشلونة خلال السنوات الأخيرة مشكلة كبيرة خاصة بالصفقات، وبعد قرار الفيفا الأخير بحرمانه من الانتقالات لمدة فترتين، فإن الفريق أصبح في حاجة ماسة إلى رجل يعرف كيف يتعامل مع الظروف الصعبة، ومع الانتقالات المستمرة التي يواجهها أندوني زوبيزاريتا، أصبح من الواجب على الإدارة التفكير في اسم جديد، خصوصاً مع كنز أكاديمية لا ماسيا، المليئة بالمواهب الشابة والنجوم الصغار.
وفي بافاريا، يطمح الفيلسوف جوارديولا في صنع نسخة أقوى مع بايرن، لذلك من الممكن أن يفكر في جلب اسم قريب من أفكاره، وشخصية يثق فيها رفقة الألماني زامر، الذي يستطيع العمل مع مونشي في الإدارة الرياضية لبطل أوروبا السابق. ومع الاحترام لكل أهداف الكبار، إلا أن إدارة إشبيلية تصر على استمرار صانع مجدها لسنوات قادمة، وذلك لأنه عنصر أساسي في النجاح، والأيام المقبلة ستشهد تفاصيل أخرى في رحلة مونشي مع المستديرة.