Skip to main content
مولانا العارف بالله والوطن جميل راتب
وائل قنديل

على مؤشّر التديّن البسيط: يأتي جميل راتب في مرتبةٍ أسبق من علي جمعة وعمرو خالد وسعيد رسلان وتواضروس، إذ عاش الفنان ومات صادقًا، يقول كلمة الحق من دون أن يفكّر في ذهب السلطان الجائر وسيفه.

لم ينافق أو يهادن أو يداهن، لم يتاجر في النصوص المقدّسة، أو يحولها إلى خادمة في بلاط حاكم مستبد، أو (المتغلب) بلغة صنفٍ من رجال الدين يعبد الحاكم قبل الله.

ولا يهمني إن كان جميل راتب مسلمًا أم مسيحيًا.. يساريًا أو يمينيًا.. كل ما يهمني أنه مات ولم يمارس التزلّف والنفاق للحكام، مثل كثيرين ممن نعوه وتظاهروا بالحزن على الفقد الفادح.

على مؤشر الإنسانية: يأتي جميل راتب في موقع متقدّم، جنبًا إلى جنب المناضلين الحقوقيين، الرمزيْن الراحليْن، أحمد نجيب الهلالي وأحمد سيف الإسلام حمد، إذ أعلن الفنان، في وقت مبكر، موقفًا نزيهًا منحازًا لعصمة الدم والحق في الحياة، حين سئل عما جرى ضد الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، فقال إنها واحدة من الفظائع، في وقتٍ كان فيه معظم الفنانين والمثقفين يساقون إلى الرقص والطبل على إيقاعات جنرال المجازر.

وعلى مؤشر الوطنية، كان مجمل أعمال جميل راتب الفنية انحيازًا نقيًا ومخلصًا للقضايا الوطنية، التي هي قضايا الإنسان المصري، فناضل، بالفن، مع الحرية ضد الاستبداد، ومع الديمقراطية ضد الدكتاتورية، ومع حق المواطن في التعليم والصحة ضد الفساد والقبح والجهالة.. وهو الموقف الذي طبقه الفنان الراحل عمليًا بالوجود بين الجماهير في الثورة الشعبية، الأبهى والأنقى في تاريخ المصريين، حين خرجوا، في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011، يطلبون الحرية والكرامة الإنسانية والعدل.

الكرامة الإنسانية لعلها كانت الكلمة السرية التي فجرت كل هذا الأسى والحزن الشفيف على رحيل الفنان الجميل، في زمنٍ متطرّف في انحيازه وولائه لكل ما هو قبيح، ورديء، من الرياضة إلى الفن إلى الثقافة، حيث لا صوت يعلو على صوت تيار الإسفاف والبذاءة، وابتذال الوطن، وإهانة معنى الوطنية، ومن ثم الوصول بمستوى الإنتاج الفني المجسّد للقيم الوطنية إلى ما تحت الانحطاط، لتدور عملية صناعة النسخة الرخيصة من مصر، المزيّفة في كل شيء، فيصير فنان متخصص في تقديم كل ما هو هابط بديلًا للعبقري أحمد زكي، وفي الرياضة يتم إطلاق الرصاص على الرموز المحترمة الغابرة، مثل حلمي زامورا وصالح سليم وناصف سليم، لتسود نماذج مرتضى منصور ومحمود الخطيب وعزمي مجاهد.

هذا الوضع البائس الذي يحترق فيه معنى الكرامة الوطنية، فتصبح معه البلاد مختنقة، حد الغرغرة، داخل أجولة أرز المعونات النافية كل معنى للاستقلال واحترام الذات، ربما فاقم مشاعر الفقد والخسارة لدى قطاع واسع من المصريين برحيل فنان لم يكن من نجوم الصف الأول (أو نجوم الشباك)، لكنه ترك مع كل دور قدّمه في السينما أو التلفزيون البصمة الأوضح والأعمق تأثيرًا، إلى الحد الذي يجعل الناس يردّدون جمله وعباراته، وكأنها من المحفوظات الوطنية.