موظفو بغداد يبدأون موسم الهجرة إلى تركيا

موظفو بغداد يبدأون موسم الهجرة إلى تركيا

19 يوليو 2014
سُدّت الطرق أمام الموظفين ولم يبقَ إلا السفر(العربي الجديد)
+ الخط -

طلبات إجازة طويلة من العمل في دوائر بغداد الحكومية، باتت تواجه بالرفض من قبل المسؤولين الذين يرفضون الاستماع إلى معاناة الموظفين السنّة من الميليشيات الطائفية التي دفعت بالكثيرين منهم إلى ترك وظائفهم، والهرب بعائلاتهم نحو تركيا، خوفا من الاختطاف أو القتل.

عمر الصالحي - موظف في الحكومة العراقية - حاول كثيرا إقناع موظف حجز التذاكر في إحدى شركات السفر بكردستان، بتقديم موعد رحلته إلى أقرب موعد ممكن، لأنه يسكن في فندق مرتفع التكلفة، ولا يستطيع تحمل أجر يومين إضافيين حتى يحين موعد سفره إلى تركيا، لكن جواب موظف الحجز جاء حاسماً ونهائياً، والسبب الازدحام الكبير الذي لم تشهد له شركات السفر والسياحة في أربيل مثيلاً من قبل.

وصل الصالحي إلى أربيل مع زوجته وابنته التي تبلغ من العمر عاما ونصف العام في بداية شهر رمضان بعد أن قدم استقالة شكلية من دائرته في وزارة النفط العراقية ببغداد، عقب مقتل ثلاثة من زملائه في العمل، واختطاف رابع، هو المهندس ماجد المشهداني الذي مايزال مصيره مجهولاً إلى الآن، "جميعهم قتلوا واختطفوا أثناء المرور بمنطقة ميليشيات شيعية تفصل بين محل سكناهم ومعمل الغاز السائل الذي نعمل فيه شمال العاصمة بغداد -يقول الصالحي- لـ"العربي الجديد" متابعا "أسكن وزملائي المغدورين في منطقة الغزالية ذات الغالبية السنيّة (غرب بغداد) ولا أستطيع الوصول إلى محل عملي من دون المرور بمدينة الشعلة التي تعد معقلاً لميليشيات شيعية مثل جيش المهدي وعصائب أهل الحق اللتين عادتا مؤخراً إلى إقامة الحواجز على الطريق من أجل اصطياد المواطنين السنّة وإعدامهم بشكل فوري أو مساومة ذويهم عليهم مقابل مبالغ مالية ضخمة".

يحاول عمر الهروب من مصير زملائه عبر السفر إلى تركيا بعد "أن أصبحت الأوضاع الحالية الأسوأ في العراق منذ الاحتلال الأميركي عام 2003 وخصوصاً لشريحة الموظفين الذين يتوجب عليهم المخاطرة يومياً بالدخول إلى مناطق نفوذ الميليشيات الطائفية" -يضيف الصالحي- مشدداً على أنه لم يواجه مثل هذه الظروف حتى في أشد أيام الحرب الطائفية بين عامي 2005 و2006 فقد كانت هناك إمكانية الحصول على إجازة طويلة براتب أو حتى إجازة مفتوحة من دون راتب مع إمكانية النقل الى دائرة مشابهة في منطقة أكثر أمناً، وهو ما لم يعد متوفراً الآن.
عشرات العراقيين يتجمعون أمام  أحد مكاتب السفر (العربي الجديد)















حالة الصالحي تعد واحدة من بين عديد الحالات ذات الظروف المتشابهة للموظفين السنّة الذين فروا مؤخراً من بغداد باتجاه أربيل في كردستان العراق كمحطة أولى في طريق الهجرة نحو تركيا التي يعتزم المتخصص في أمراض القلب الدكتور علي العلاف الاستقرار فيها مؤقتاً لحين الحصول على فرصة عمل أو لجوء إلى إحدى الدول الأوروبية.

عمل الدكتور العلاف جاهداً في الفترة الأخيرة من أجل الحصول على إجازة مطولة من دون راتب من المستشفى الحكومي الذي يعمل فيه، ولكن من دون جدوى، فيما نصحه أحد المقربين من مسؤول كبير في وزارة الصحة بعدم المحاولة مجدداً لأن الإجازات الوحيدة التي تمنح حالياً هي للمتطوعين من الموظفين الشيعة الذين ينفذون فتوى (الجهاد الكفائي) التي أطلقها المرجع الشيعي علي السيستاني لقتال المسلحين السنة في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين.

وبالرغم من حالة المنع المعلنة، فإن هناك من وجد في هذه الأوضاع فرصة للكسب المادي، فقد رفض الدكتور العلاف عرضاً من أحد العاملين في الشؤون الإدارية بالوزارة لتدبير إجازة مرضية لمدة 20 يوماً مقابل مبلغ (400) دولار، كونها ليست حلاً منطقياً، ولأنه يحتاج إلى إجازة أطول بكثير من هذه المدة من أجل تصفية ممتلكاته في بغداد والسفر إلى تركيا لترتيب أوضاع عائلته، ونقلها تدريجياً إلى هناك.

ويشرح العلاف لــ"العربي الجديد" الظروف الخانقة التي أصبحت تواجه الموظف السنّي في الدوائر الحكومية في العاصمة والمتمثلة بالمضايقات المستمرة وتلقيبهم بـ(الدواعش) من قبل الموظفين الشيعة وتكليفهم بالواجبات المرهقة ومنعهم من الإجازات، بالإضافة إلى مخاطر الاغتيال والاختطاف على أيدي الميليشيات التي تتصيد الموظفين السنّة وخصوصاً الكفاءات منهم لتصفيتهم جسدياً.

ولم يتردد العلاف أبداً في اتخاذ قرار ترك العمل ومن دون استقالة رسمية، بعد اختطاف اثنين من زملائه، هما الدكتور رافد اسماعيل المتخصص في الأمراض الباطنية والذي طلب الخاطفون مبلغ 150 ألف دولار من أجل إطلاق سراحه، فيما كان خاطفو طبيب الأسنان أسامة طاهر، أكثر تساهلاً حين طلبوا مبلغ مائة ألف دولار لقاء حريته، لكن أهل زميله يعتقدون أن الخاطفين سيأخذون المال ويقتلونه في كل الأحوال لأن دوافعهم طائفية وليست مادية.

طلب عراقي غير مسبوق على تذاكر السفر الجوي إلى تركيا (العربي الجديد)





مصدر مسؤول في مكتب وكيل وزارة الصحة العراقية -رفض ذكر اسمه كونه غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام - نفى وجود توجيهات رسمية بمنع الإجازات الطويلة عن الموظفين بغض النظر عن طوائفهم، مبيناً أن الأوضاع الاستثنائية التي يمر بها العراق وحالة الحرب الدائرة في ثلاث محافظات جعلت الحاجة ماسة لجميع الكوادر الطبية ودعت إلى تأجيل النظر في طلبات الإجازات إلى ما بعد انتهاء العمليات العسكرية.

وفي سؤال لــ"العربي الجديد" عن السماح بالإجازات للراغبين بالتطوع، تلبية لفتوى السيستاني، أكد أن السماح بهذه الإجازات يأتي تنفيذاً لتعليمات شفهية صادرة عن أعلى سلطة، وهي مجلس الوزراء، ولكنه لا يستبعد أن يكون عدد من الذين يحصلون على إجازة التطوع يذهبون إلى بيوتهم أو حتى للاستجمام خارج البلد، في وقت يسجل موقفه الرسمي في الدائرة تحت عنوان (مقاتل متطوع لمحاربة الإرهاب).

وفي سياق الموقف الحكومي النافي، فإن الناطق الرسمي لوزارة الداخلية العراقية العميد سعد معن، يرى أن عمليات الاختطاف التي تحصل لموظفين في بغداد هي حالات فردية لا تتعدى الواحدة أو الاثنتين، وأنهم يقومون بمتابعتها والتعامل معها، في حين لا يوضح العميد معن الدوافع الحقيقية من هذه الجرائم، وما إذا كانت طائفية أم جنائية.

في جولة لــ"العربي الجديد" على مكاتب السفر في أربيل رصدنا وقوف عشرات الموظفين الراغبين بالهرب من العراق، بعضهم ترك وظيفته بالاستقالة أو بالانقطاع من دون إشعار مسبق، وهو ما أقدم عليه ضياء النعيمي الذي يعمل محاسباً معاوناً في الجامعة العراقية بعد أن قرر وزير التعليم العالي علي الأديب - القيادي بحزب الدعوة أحد مكونات ائتلاف المالكي الحاكم - عدم الموافقة على طلبات الإجازة سواء كانت طويلة أو لأيام معدودة.

"الوزير علي الأديب ذهب إلى أبعد من ذلك بتشكيله لجنة أمنية للنظر في اسم وبيانات الموظف الذي يقدم طلباً للإجازة" يقول النعيمي، لافتا إلى أن مكتب الوزير برر إجراءه بالترتيبات الإدارية اللازمة، ولكن الموظفين السنّة يؤكدون أنه يهدف إلى فرز مقدمي الطلبات بحسب طوائفهم تمهيداً لقبول ما يلائمه ورفض الأخرى.

وبعد تقديمه أربع طلبات متتالية، أيقن النعيمي عدم جدوى هذا الإجراء، وأن الأمر محسوم سلفاً بعدم منح الموظف السنّي إجازة لحين جلاء الموقف واستقرار الوضع الأمني، وبالتالي "ليس أمامه سوى البقاء ومواجهة مصير القتل أو الاختطاف أو حتى الاعتقال في أحسن الأحوال" خصوصاً أن مكانه الوظيفي لن يبقى شاغراً لأنه سيتم تعيين شخص آخر مكانه، وسيكون حتماً من الطائفة الأخرى على حد قوله.

"تنص اللوائح الإدارية والقوانين المعمول بها في إدارة الدولة العراقية على إمكانية حصول الموظفين في دوائر الدولة على الإجازة التي يرغبون فيها بشرط توفير سنوات الخدمة الكافية وأيضاً الحصول على الإجازات الطويلة من دون راتب، وكذلك الحال في التنقلات بين المدن والمناطق المختلفة حسب المبررات التي يقدمها الموظف صاحب الطلب" كما يقول الخبير القانوني والإداري العراقي أكرم فرهاد الجاف لـ"العربي الجديد".

وعن موقف المنقطعين عن الدوام بسبب ظروفهم القاهرة، يبين الجاف أن قانون "انضباط موظفي الدولة والقطاع العام" ينص على إنهاء خدمات الموظف في هذه الحالة واعتباره مستقيلاً، وكذلك بالنسبة للذين يقدمون استقالات رسمية ولا تتم الموافقة عليها من قبل المسؤولين لن يحصلوا على أي تعويض مادي أو راتب تقاعدي بغض النظر عن سنوات خدمتهم ودرجاتهم الوظيفية.

ويخلص الجاف إلى القول بأن هذه الأمور تخضع بالأساس إلى العامل الإنساني الذي يجب أن يتمتع به الشخص المسؤول ونظرته إلى الأوضاع المأساوية الموجودة في العراق حالياً، و"مثلما أن هناك قانوناً، فإن هناك روحاً للقانون تتيح للمسؤول أن يساعد الموظف الذي يتعرض لظروف قاهرة، وأن يأخذ بعين الاعتبار جميع المبررات والأسباب ومراعاة الإنسانية منها في الموافقة على طلب الإجازة. يختتم الجاف حديثه الذي أثار ابتسامة مريرة على وجه عمر الصالحي، قبل أن يغادر مكتب شركة للسفر والسياحة وسط أربيل، قائلا باللهجة العراقية "أكو الخبير القانوني يتحدث عن مسؤولي العراق أو عن مسؤولين من كوكب آخر".