موسيقاي

موسيقاي

28 يونيو 2019
+ الخط -

تتملكني سعادة غريبة من نوعها عندما أستمع إلى الموسيقى، هي صديقتي الحميمة منذ طفولتي، ألجأ إليها عند حزني وفرحي، بكائي وضحكي، حبي وكراهيتي.. ألمي وضعفي.. أعتبرها فقاعتي الحاضنة التي أعيش داخلها، حتى إنني أتمنى لو أن موسيقى تصويرية تصاحب حياتي دائماً، لا بل أكثر من ذلك، معظم الأحيان في عملي أستمع إليها بصوت عالٍ نسبياً، أفضلها غالباً على أصوات الزملاء. عندما أحتاج للابتعاد عن المكتب لقضاء أمر ما، أحزن لأنني أتركها وأنها لا تصاحبني في قضاء أمري. أعلم أنه أمر غريب.. ولا أدري متى بدأ معي هذا الأمر، ربما كانت وسيلتي للهرب من أي أمر سيئ في حياتي أو ربما هي وسيلتي للتعايش مع نفسي طورتها عبر الأيام.

منذ نعومة أظفاري، كنت أكثر ميلاً للموسيقى الغربية، وابتعاداً عن الموسيقى التقليدية أو الشائعة. فعندما كنت في السابعة من عمري، أذكر أنه في أول يوم بالصف الثاني الابتدائي، استيقظت متأخرة قليلاً، نحو التاسعة لأن دوامي كان مسائياً، أي إنه كان يبدأ في الساعة 12 والنصف ظهراً، وقد غادر والداي بالطبع إلى أعمالهم، وأخواتي إلى مدارسهنّ.

البيت فارغ وموحش، ولا شيء مؤنس غير أصوات بعيدة للمذياع تتناهى إلى مسامعي، تنقل أجراس الساعة البريطانية المميزة "بيغ بن" معلنة بدء بث الأخبار على قناة البي بي سي، هيئة الإذاعة البريطانية. المحطة ذات الذوق والأصوات المميزة. 

بعد أن جهزت فطوري ونفسي، ما فتئت أنتظر وقت بدء المدرسة بقلق، إنه اليوم الذي سأبدأ فيه يومي الأول في مدرسة جديدة وفي مرحلة جديدة، لكوني اجتزت فحص سبر المعلومات الشهير الذي كان والداي يحثّاني على الدراسة له واجتيازه لتخطي الصف الأول، وهكذا دخلت الصف الثاني مباشرة بعد الروضة. حزت علامة متوسطة وقتها، أظن أنها كانت سبعاً وربع علامة من عشر وهو أمر غير مبشّر، لأن هذا يعني أني سأعاني في فهم الرياضيات. أبوح بهذا السر لأول مرة على الإطلاق.. فجميع أخواتي وأصدقائي نجحوا بعلامات كاملة فيه، وكنا عندما نتبادل العلامات أقفل شفتي وأرمي المفتاح في مكان ما.

أعود لفترة انتظاري، فقد تناهت إلى مسامعي أنغام أغنية جميلة أحبها حتى الآن، هي الأغنية التي تربعت على المركز الأول في عرش الأغنية البريطانية وقتها للمغني، فيل كولينز،  تدعى"أنوذر داي إن برادايس"، لم أفهم الكلمات حينها، ولكني أذكر بوضوح ما كان يدور في بالي، كنت أفكر وقتها في طريقة لمساعدة الفقراء، وأشعر بالحزن لرؤية أحد يحتاج للمساعدة ولا يوجد من يساعده. برأيي هي أغنية مؤثرة مليئة بالراحة والحنان، وأشعر الآن بالاستغراب أن ما كنت أفكر فيه وكلمات الأغنية متشابهة، فهي تتحدث عن مساعدة الآخرين وكيف أنه يجب علينا التفكير ملياً في مجرد المرور بشكل عابر أمام أناس بحاجتنا.

طفولة سعيدة!

في الوقت نفسه لا أدري لم كنت أنفر من موسيقى فيروز، أظن أنها تجعلني أحسّ بمزيد من الكآبة والحزن ولون أسود قاتم لا أستطيع تفسيره. فهي دائماً تتحدث عن انفصال الأحبة وضياع الناس وتغير الدنيا. هذا الأمر سوف يُغضِب من يقرأ هذه الكلمات، لكن هكذا تفاعلت مع معظم ألحانها.

خلال المرحلتين الإعدادية والثانوية، لم أكن أستسيغ كثيراً الأغاني العربية الدارجة وأفضّل ما كان يعرض على القناة الثانية، سبيلنا الوحيد للأغاني الغربية بالإضافة إلى الراديو، وخاصة عند ظهور موجة الفرق، مثل "فتيات التوابل" = "سبايس غيرلز"، "صبيان الشارع الخلفي" = "باك ستريت بويز"، "آل كور" = "ذا كورس". كم هي ممتعة الأسماء العربية لهم.  

ذوقي الموسيقي تقلب كثيراً في حياتي، وأعتقد بتشددي في انتقاء أغانيّ، التي أعلم أن معظم دوائري لن توافق عليها.

سكاتمان أو الرجل المتأتأ كان من أجمل ما رافقني، مرة أخرى لم أفهم تماماً معاني أو كلمات أغانيه أو حتى معنى سكاتمان نفسه، لكني خلقت رابطاً معه، فهو يتكلم بسرعة لدرجة أن الناس لا تفهمه بسهولة، وهذا يشبه تماماً ما كنت أشعر به حينئذ.

أذكر أن ذوقي اختلف عندما بدأت بمتابعة الأغاني على قنوات مختلفة بسبب "الدش"، مثل القناة الإعلامية لشبكة أوربت التي عرضت برنامجاً لساعتين عن الأغاني العشرين الأولى في قائمة الأغاني الأكثر سماعاً. كان ذلك في صيف عام 1999. سجلت حينها العديد من أشرطة الفيديو للأغاني التي أحبها، عليها عدة ساعات من فيديوهات أغانيّ المفضلة. كانت أوقاتاً سعيدة إلى أن سجلت إحدى أخواتي على أحدث شريط فيديو لي حلقة لبرنامج الاتجاه المعاكس!

أحب حقيقة خلقي رابطاً بيني وبين الأغنية والمغني/ ة وخاصة إن كان/ ت هو/ ي كاتب/ ة الأغنية.

كان عمري خمسة عشر عاماً عندما تعرفت إلى موسيقى الراب والهيب هوب من خلال 2PAC و Will Smith. كل من عالمي وأفقي اتسعا جداً بمعرفة النمطين وخاصة عندما فهمت كلمات 2PAC، وتعرفت إلى أغنيته "تشينجز" التي تلت مباشرة مقتله، وبسببه بحثت قليلاً عن موسيقى الراب، وفهمت بأنها ثورة للتعبير عن حال الشارع والمشاكل التي يعاني منها، وبوجود مشاكل بين موسيقى الراب الساحلين الشرقي والغربي في أميركا.

ربما ثورتي المطلقة هي بعد تقديمي لفحص البكالوريا، واستماعي لموسيقى الروك الثقيل، وتعرفي إلى فرقة ميتاليكا، أغنية "نوثينغ إلس ماترز" وصوت "جيمس هاتفيلد" ذي البحة الرائعة، وفرقة "نيرفانا" بأغنيتها "ذا مان هو سولد ذا ورلد" وصوت "كيرت كوبين" الرائع والمميز.

في الجامعة، بدأت استمع أكثر لموسيقى الميتال، تلك الموسيقى التي تحوز سمعة سيئة تماماً، ويُتهم مستمعوها بأنهم من عبدة الشياطين، ربما هم كذلك بعض الأحيان ولكنهم ليسوا كذلك دائماً.

بدأت مع الميتاليكا وتجددت معها مع كل أغنية، أذوب مع صوت جيمس، وكان جل ما تمنيته حينها أن ألتقي بشاب ذي بحة مشابهة، فالصوت يمكنه أن يؤثر عليّ بشدة! ربما حفلتهم مع أوركسترا "سان فرانسيسكو" وإعادة توزيع الأغاني لتوافق ذوقين مختلفين هما "الكلاسيكي" و"الميتالجي" من أجمل ما فعله المايسترو "مايكل كيمن". شريط "دي في دي" لحفلتهم تلك وما وراء الكواليس وقتها كان أجمل هدية حصلت عليها في صيف 2006.


هناك إحساس غريب عامةً بأن تكتشف أرضاً محرّمة، أرضاً يحكم عليك بمجرد الوصول إليها، وهكذا كان إحساسي عندما أخبر الناس بذوقي الموسيقي الميتالجي، لكن هناك إحساس خفي باللذة عند فعلك لأمر مختلف ومحرم، كنت أسعد بصدم الناس عن ذلك، وخاصة أني كنت أرتدي الحجاب حينئذ وبالتزام ديني يميز مسيرتي عامة في الحياة. 

لطالما أحببت تلك التناقضات التي ميزت حياتي، ربما كانت متعِبة ولكنها أحالت حياتي أكثر جمالاً. ربما الأمر المتعب هو أنني أفقد صلتي مع الناس عندما أتكلم عن الموسيقى، لأني لا أحمل مشاعر الحب السائد في قلبي، للأغاني التراثية أو الطربية أو حتى الدارجة، كغالبية الناس، وهنا أحسّ بغربة بأن ذوقي غير متقبل، ولن أبدأ الحديث عن الأعراس وعدم معرفتي لأبسط الأغاني التي يتم تشغليها وقتها!

 نعم أحبّ موسيقى المعدن بشدة، وإن كان عليّ التعريف عن نفسي بنمط ما، فربما كان هو الميتال. يمكن أن يعود هذا الأمر إلى الفرق التي اخترت سماعها، فهو منسوج بدقة، يحتوي على جمال بمسحة حزن مسيطرة، وصوت الجميلة والوحش (ذا بيوتي أند ذا بيست) التي تعبر عنّا وعن أنانا عليا كانت أو سفلى. وبرأيي ليس كل ميتالٍ بميتال! هناك فرق لا أطيق الاستماع إليها، لكن فرقي ذات طعم موسيقيّ جذاب. 

اسكندنافية المنشأ في معظمها وإنكليزية الكلمات، كفرقة "أوبيث" بقطعها الموسيقية الرائعة ذات النمط "الديث ميتال" أو "الدوم ميتال" التي أعتبر أنها في قمة الإبداع الموسيقي، والرشاقة الموسيقية، أو فرقة "ساترنس" من ذات النمط، بكلماتها البسيطة العميقة وألحانها الجميلة. فرقة "هاغرد" الألمانية أيضاً تميزت بنمط روك قوطي أو ميتال سيمفوني وكلمات رائعة، حتى إن عناوينها مميزة بحد ذاتها، ما أجمل هذا التعبير "ذا داي أز هيفن ويبت". 

لن أغفل أكثر الفرق تأثيراً عليّ، وهي فرقة "أناثيما" البريطانية بنمطها الموسيقي المتغير، من ميتال إلى روك إلى نيو إيج. وبكلمات رائعة، أستطيع القول إنها صبغتني.  

هذه الأغاني صنعت حياتي، ورافقت أحداثها، وأستطيع القول إن بعضها لا يمكنني سماعه لأنني سأعيش أوجاع قلب مجدداً. 

أستمع إلى كل أنواع الموسيقى وقلبي مفتوح لكل منها، أعتبر نفسي "حَبّيبة"، أحب كلاً منها وأخلق رابطاً معها وأخصص جزءاً من قلبي لها، فلديّ العديد من الحجرات داخله تتسع للجميع.

ربما كتبت هذه التدوينة لأدعو الناس أن تستعير عدستي وترى الحياة بعدسة الموسيقى وتسمعها بطعم آخر، سأكتب عن تجربة أخرى عشتها عن الموسيقى في غربتي.. وسأذكر الموسيقى العربية فيها.

 

دلالات

8ABCAC01-1245-48ED-ABFE-223407FDAB16
هدى فنصة

مهندسة معمارية سورية. حاصلة على ماجستير في العلوم، اختصاص البناء والتصميم العمراني في التنمية من "وحدة تخطيط التنمية" في كلية لندن الجامعية UCL، بالإضافة إلى درجة الماجستير التأهيلي في هندسة المدن، تنمية المدن المستدامة من سورية وفرنسا.

مدونات أخرى