موريس غودلييه.. تحديث المجتمعات والهيمنة عليها

"المركز العربي" يستضيف الأنثربولوجي الفرنسي موريس غودلييه

16 مايو 2017
(موريس غودلييه)
+ الخط -
يعدّ الأنثروبولوجي الفرنسي موريس غودلييه (1934) أحد أبرز الباحثين الذين ناقشوا كيفية انخراط المجتمعات ما قبل رأسماليّة في النظام الرّأسمالي وتحوُّلاتها، وهو الذي أقام عشرين عاماً لدى قبائل بورويا في غينيا الجديدة، وقد تُرجمت بعض مؤلّفاته إلى العربية، منها: "القبائل في التاريخ وفي مواجهة الدول"، و"الجماعة، المجتمع، الثقافة".

حلّ غودلييه ضيفاً على "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" و"معهد الدوحة للدراسات العليا"، مؤخّراً، وقدّم سلسلةً من المحاضرات في مواضيع أنثروبولوجية وثقافية - حضارية متنوّعة، بدأها بمحاضرة بعنوان "هل يمكن التحديث من دون تغريب؟"، عالج فيها هذا السؤال، بطلب من المنظِّمين.

انطلق غودلييه في محاضرته من ثلاث ملاحظات إمبريقية استخلص منها مقولات تحوّلت عنده إلى مسلّمات، وهي: أنه في كلّ العصور، وفي كلّ المناطق كان هناك تحديث اعتمد على الاقتباس من الغير، أو على الانفتاح الكامل عمّا عند الغير من عناصر القوة والتجديد، بما في ذلك النماذج الاجتماعية والثقافية.

في العصر الحديث، بحسب المحاضر، غزا الغرب العالم مرتين في الوقت ذاته؛ استعمر النصف الجنوبي للكرة الأرضية، وأدخل إلى كلّ المجتمعات التكنولوجيا، ونموذج الدولة - الأمّة، ومجموعة أخرى من المعايير والقيم التي كانت هذه المجتمعات لا تضعها في الصدارة؛ مثل الفردانية وغيرها، كما ساعدت العلاقات الرأسمالية، بوسيلة التغييرات الهيكلية التي أحدثتها داخل المستعمرات في مواضيع الملكية والاتصالات والتجارة والإدارة، على الانتشار كونياً، ما سمح لاحقاً بخلق حالة العولمة التي نعيشها الآن.

يؤكّد غودلييه أنه في العصر الذي نعيش فيه، لا يمكن التحديث من دون تبادلٍ مع الغرب وعلاقة مكثّفة به، لكنه استدرك بالقول إنّه بالإمكان، كما فعل اليابان في القرن التاسع عشر، وضْع حدود لهذا التغريب لكنّه لم يشرح هذه الحدود، ولا الأسس التي يمكن تعريفها واختيارها، ولم يذكر من يقوم بذلك داخلياً وخارجياً.

قدّم محاضرته الثانية تحت عنوان "ما الذي يصنع من المجموعات والأفراد مجتمعاً؟"، منطلقاً من التعريف الأنثروبولوجي الكلاسيكي للمجتمعات "البدائية"، أي التي ليس فيها دولة ولا سوق ولا بيروقراطية، بأنها مجتمعات قرابية، وهو ما يعني أنّ الأنثروبولوجيا جعلت من رابطة القرابة أساساً لهذه المجتمعات. ليتساءل عن صحة هذا الافتراض إن كانت القرابةُ تبني مجتمعاً، وهل يمكن إثبات النظريات الاقتصادية - السياسية، ومنها الماركسية، التي حاولت أن تجعل من الرابطة الاقتصادية أساسَ المجتمع.

يقول غودلييه "بما أنّ هناك مجتمعاً مكوّناً من مجموعات قرابية مختلفة لا تتبادل بينها النساء ولكنها تشكّل مجتمعات، بمعنى أنّ الأفراد المكوِّنين لها يتمثلون أنفسهم كأعضاء في مجتمع يتجاوز مجالهم القرابي المباشر، فهذا يعني أنّ القرابة لا تبني مجتمعاً، وبما أنّ هذه المجتمعات مكوّنة من مجموعات لا تبادلَ اقتصادياً بينها لكنّ أعضاءها يعُدّون أنفسهم منتمين إلى مجتمع واحد، فإنّ العلاقة الاقتصادية لا تصنع مجتمعاً".

ما الذي يصنع المجتمعات إذن؟ يرى الباحث أن العلاقات السياسية والدينية التي تقوم على المخيال الاجتماعي وتجسّداته الطقوسية ورموزه الثقافية. وهذه العلاقات هي في الوقت نفسه مادية وذهنية. ومن هنا جاءت أهمية دراسة ما يجمع بين الأفراد والمجموعات من علاقات تتجاوز القرابة والاقتصاد، لتشكّل بنًى ونظماً تؤثِّر في سلوك الأفراد وفي حياتهم، وهو ما لا تريد أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة الاعتراف به، فهي تفكر في مفاهيم تفكّك، بدلًا من مفاهيمَ تُعيد البناء.

في المحاضرة الثالثة، تحدّث عن علاقة تاريخ المتاحف الغربية بالفترة الاستعمارية، وعن ضرورة القطع مع التصميم الكلاسيكي لفكرة المتحف في الإطار الاستعماري، مقترحاً التفريق بين مستويين؛ الوظيفة الجمالية وهي تتعلق بلذة التعرّف إلى روائع الفن الإنساني التي ينتجها أناسٌ ينتمون إلى ثقافات ومناطق وأزمان تاريخية مختلفة، ما يُدخل السعادة على الزائر ويُقرّبه أكثر فأكثر من إنسانيته، والوظيفة المعرفية، وهي تتعلّق بضرورة معرفة تاريخ كل قطعة متحفيّة معروضة من جوانب متعدّدة، من بينها: هوية مصمّمها وصانعها، والتاريخ والبيئة الاجتماعية اللذان أنتجَا الفنان والقطعة، والمعاني الثقافية التي تحملها القطعة، والشروط الاجتماعية والسياسية التي جعلت القطعة الفنية تغادر منشأها الأصلي لتصل إلى المتحف الذي وُضعت فيه.

كما التقى طلبة برنامج علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في المعهد، وقدّم لهم محاضرةً ركّز فيها على أهمية البحث الميداني في بلورة الأسئلة والأجوبة الجديدة التي تساهم في النقاش الدائر في مجال التخصّص.

وكمثال على ذلك، عرض غودلييه تجربته البحثية التي عاشها مع قبائل البورويا في غينيا الجديدة في المحيط الهادي، وتناول قضيةً معرفيةً اشتغلت بها الأنثروبولوجيا فترةً طويلةً: ففي غياب الدولة واقتصاد السوق والبيروقراطية، كيف تُبنى الهيمنة الاجتماعية، وكيف ينقسم المجتمع بين مهيمِنين ومهيمَن عليهم؟

المساهمون