موريزيو لازاراتو: عن إنسان يُنتَج في مخابر المديونية

موريزيو لازاراتو: عن إنسان يُنتَج في مخابر المديونية

04 اغسطس 2017
(موريزيو لازاراتو)
+ الخط -

ليس نادراً أن يجري التعامل مع المديونية في العالم العربي كعامل مفسّر لكثير من الظواهر؛ بداية من قرارات الأمن القومي، وصولاً إلى سياسات التعليم والصحة وتكلفة المعيشة. هذا الحضور لا نجده غالباً إلا على مستوى الخطاب المسيّس ضمن ثنائية: حكومة/ معارضة، إذ إن المديونية والعلاقات التي تنشئها لم تتحوّل إلى موضوع فكري في ما عدا بعض الدراسات الاقتصادية قليلة الانتشار والشعبية.

تظهر المديونية كموضوع انشغال أساسي في منجز المفكر الإيطالي موريزيو لازاراتو (1955) خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية العالمية (2008)، إذ يجعل منها زاوية نظر يفسّر بها ما حدث ويقرأ تحوّلات العالم المعاصر، وهو ما يظهر بالخصوص في إصدارات مثل "تصنيع الإنسان المديون" (2011) و"التسيير من خلال الدَين" (2014).

مقاربة لازاراتو ليست اقتصادية حصراً، إذ إنه يأتي بمجالات متعدّدة لمقاربته، وهو ما فعله في كل منجزه سابقاً، مازجاً بين ميادين متعدّدة؛ علم الاجتماع، الفلسفة، الاقتصاد، وعلوم الاتصال وغيرها، ما يجعل كثيرين يجدون صعوبة في تصنيفه.

في لقائه مع "العربي الجديد" في باريس حيث يقيم، يقول لازاراتو بشيء من المرح الإيطالي: "التوصيف الدقيق هو أنني في منطقة حدودية بين هذه المجالات جميعها. الأسئلة هي التي تقودني في كل مرة إلى تخطّي سياج مجال معرفي لم أتخصّص فيه سابقاً".

يرى صاحب كتاب "العمل غير المادي" أن هذا الخيار هو الطبيعي "غير أن هيمنة الأكاديميين على الحياة الفكرية جعل الطبيعي يبدو غير مألوف، باعتبار أن الأكاديمي يجعل من الفكر عملاً وبالتالي يخضعه إلى منطق تقسيم العمل".

هذه المقاربة العابرة للتخصّصات يطبّقها لازاراتو على مسألة المديونية التي ينشغل بها منذ سنوات، يقول: "إنها مع النظرة الأولى مسألة اقتصادية، ولكن التعمّق يجعلنا نلمس أنه من المستحيل الاكتفاء بعلم الاقتصاد لدراستها بشكل مقبول، من هنا يبدأ استدعاء الفلسفة والتاريخ وعلوم السياسة والنفس والاجتماع وغيرها".

كيف تبلور هذا الاهتمام بالمديونية كقضية فكرية عند لازاراتو؟ السبب الظاهري هو تحوّلها إلى قضية رأي عام في الفضاء الأوروبي بعد الأزمة اليونانية. يقول: "حين حدث ذلك، وجدتُ أنه قد جرى نسيان مسألة المديونية على أكثر من صعيد؛ بداية من تاريخها الاقتصادي خارج القارة الأوروبية باعتبار أن سياسات المديونية في العالم بدأت في مناطق أخرى؛ بدأت في أفريقيا وأميركا اللاتينية أولاً ثم جرى تعميمها حتى بلوغ أوروبا. كما أن المديونية ليست قضية على مستوى الدول وحدها، بل هي تخصّ الإنسان ككائن اجتماعي وكوحدة نفسية أيضاً".

مع عودته لدراسة مسألة المديونية في جذورها الفكرية البعيدة، وقف لازاراتو على كون هذه الإشكالية غابت في علم الاقتصاد السياسي، حتى على كارل ماركس الذي جعل التبادل وحده محرّكاً للحياة الاقتصادية وصانعاً للعلاقات الاجتماعية.

في نفس عصر ماركس، وجد لازاراتو أن نيتشه، وعلى الرغم من أنه لم يتحدّث بشكل مباشر عن المسألة الاقتصادية إلا أنه تفطّن إلى أن علاقة المديونية أساسية لفهم الاقتصاد والمجتمع والأخلاق (الهدف الأساسي لنيتشه، حيث ظهرت هذه الملاحظات في كتابه "جينيالوجيا الأخلاق").

يقول لازاراتو "العلاقة دائن - مديون هي بحسب نيتشه علاقة أسبق من علاقة التبادل الاقتصادي، وهي لا تُنتج علاقة اقتصادية فقط بل علاقة نفسية أيضاً، لأن المديونية تفرز شعوراً بالذنب، ونيتشه كان يرى أن جميع المظاهر السلبية للحضارة الغربية الحديثة، مثل سوء الظن والكذب وتقنيات الابتزاز ناجمة عن الشعور بالذنب، والمديونية أحد مولّداته".

نقطة أساسية أخرى التقطها لازاراتو من نيتشه وهي "أن المديونية تنتج علاقة خاصة بالزمن (المستقبل)، لقد خلقت الإنسان الذي يقدّم الوعود، والوعود تتعلق بالمستقبل، وهكذا بدأ جرّ المستقبل في لعبة المال، حتى وصل الوعد إلى رهن قطعة من الجسد كما يظهر ذلك في مسرحية شكسبير "تاجر البندقية"، والتي هي إضاءة على زمن بداية هيمنة الرأسمالية على العالم".

يصل سرد لازاراتو لحكاية المديونية إلى الحاضر، فـ"مع تطوّر الأنظمة البنكية واندماج الحياة الاقتصادية معها، جرى جرّ الجميع إلى لعبة المديونية من خلال الإغواء بالقدرة على تحقيق جميع الرغبات؛ البنك يقدّم للمديون فرصة تجسيد طموحاته فورياً، وهذا الأخير يقدّم الوعود بتسديد مستحقاته بشتى السبل".

يضيف: "اللعبة التي كانت منحصرة بين المقرضين وأصحاب المشاريع ظلّت تتعمّم وتتعمّم حتى تحوّلت إلى وضع بشري، وهو ما جعل جيل دولوز يلاحظ بأن مشكلة الإنسان المعاصر ليست فقط كما يقول ميشيل فوكو هي الحصر المكاني (المدرسة، المستشفى، المصنع، المكتب..)، وإنما تمتدّ إلى حصر زمني، لأن الإنسان المديون محاصر زمنياً".

حول السياسات الحكومية التي يراها اليوم في مواجهة الأزمات الاقتصادية، يقول: "الجميع يقدّم التقشّف كحلّ، وليس في ذلك سوى عودة إلى ما قاله نيتشه حول الشعور بالذنب المصاحب للمديونية، إذ إنه إلى جانب الخطاب الذي يدعو إلى سياسات التقشّف ثمة خطاب تبريري يقوم على إثارة الشعور بالذنب حيث يعيد سبب الأزمة إلى الشعب: كثرة الاستهلاك، قلة العطاء في العمل، كثرة الضمانات الاجتماعية، الرغبة في الخدمات المجانية (تعليم، صحة، نقل..)".

يعتبر لازاراتو أن المغالطة الكبرى في مسألة المديونية هي الإيحاء بأنها معطى طبيعي من معطيات الاقتصاد، اقتضتها ضرورات نموّه، بينما هي في الحقيقة أمرٌ جرى تحويله (بشكل مصطنع) إلى معطى. وهو هنا يعرّف المديونية بـ"نظام جرى اختياره من أجل تنظيم الاقتصاد العالمي، أي أنه وقع الاختيار على المديونية كأداة رئيسية لإدارة هذا العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".

يضرب المفكّر الإيطالي مثلاً بالتكنولوجيا التي تجري قراءة التحوّلات في العالم (من الطبيعة إلى الأخلاق) من خلالها، وكأنها عامل تغيير بريء، لكنها ليست كذلك، إذ يذكّر هنا بـ"الاستثمارات الأميركية الكبيرة بعد الحرب العالمية الثانية من أجل تطوير شبكة عالمية تمكّنها من التمدّد، وبدأ الجميع يساعدها من دون أن يدري، تحت يافطة اللحاق بالتطوّر التكنولوجي".

جميع هذه القراءات قريبة من منطلقات "ثورية" لـ لازاراتو، إذ إنه في شبابه انتمى لمنظمة يسارية سرية ما كلّفه حكماً بالسجن اضطرّه للفرار من إيطاليا إلى فرنسا في 1970 حيث استقر. وعلى الرغم من أن الحكم الصادر ضدّه أسقط سنة 1990 إلا أن صاحب كتاب "علامات وآلات" قرّر البقاء في فرنسا.

يوضّح ذلك قائلاً "حين انتهت مسألة التتبعات، وجدت أن إيطاليا تغيّرت كثيراً مع صعود صناعة الرأي العام في كواليس التلفزيونات (ظاهرة برلسكوني)، فقررت أن أبقى وقتاً آخر في باريس، ويبدو أنني بقيت كل الوقت".


ويليه بؤس السوسيولوجيا
يساهم لازاراتو بانتظام في مجلة "مولتديد" (جمع كلمة تعدّد) التي نجد فيها دراسات تمثّل نواة معظم إصداراته، كان أوّلها "قوى الابتكار" (2002) الذي ظل أشهر أعماله حتى ظهور موجة من الكتب اللافتة؛ "العمل اللامادي" (2010)، ثم "تصنيع الإنسان المديون" (2011، الصورة)، و"رفض العمل.. ويليه بؤس السوسيولوجيا" (2014). أما آخر مؤلفاته فهو "الحرب ورأس المال" (2016، بالاشتراك مع إيريك ألييز).

المساهمون