مواجهة اللايقين

مواجهة اللايقين

08 يوليو 2020
+ الخط -

لعقود عديدة، أقله منذ الحرب العالمية الثانية، لم يدخل العالم حالةً من عدم اليقين كما اليوم. تبدو الصورة غائمة إلى درجةٍ لا تُجدي معها أي محاولة تطمين، فجائحة كورونا ما زالت تعصف بقوة، وما أن تنحسر في منطقةٍ حتى تعود لتضرب في أخرى، مهدّدة حياة الملايين، خصوصا في الدول الأكثر هشاشة، ومن دون أن يظهر أفق واضح لكيفية التغلب عليها، على الرغم من كل التقدّم الطبي الذي حققه الإنسان خلال القرن الماضي. تبدو التداعيات الاقتصادية للجائحة أسوأ وأطول مدى. وبسبب تعطل النشاط الاقتصادي في العالم، ألقت، وستلقي، الجائحة عشرات (ربما مئات) الملايين خارج سوق العمل، وستدفع آخرين معتمدين عليهم في براثن الجوع والمرض. قطاعات اقتصادية عديدة لن تتعافى قبل سنوات، ومعها أسعار الخامات على أنواعها. الوضع الحالي لا يقارن إلا بالكساد العظيم عام 1929. السياسات الحمائية والانعزالية سوف تفعل فعلها أيضا في النظام الاقتصادي الدولي، حيث تسعى كل دولةٍ إلى إنقاذ نفسها، واحتواء تداعيات الجائحة على اقتصادها، هذا يعني أننا على موعدٍ أكيد مع ثوراتٍ واضطراباتٍ اجتماعية على مستوى العالم، على اختلاف النظم السياسية التي تحكم فيه.

تعرّض العمل الجماعي الدولي، هو الآخر، لنكسة كبيرة، حيث باتت مؤسساتٌ ومنظماتٌ دولية عديدة تواجه الضعف والتشكيك بجدواها، بما فيها منظمة الصحة العالمية التي تتولّى التعامل مع الجائحة. صعود الشعبوية والنزعات القومية والعنصرية في العالم، وترهل النظام الليبرالي الدولي على صعيد القيم والممارسات، وتقديم النظم الاستبدادية نفسها بديلا، وترويج "نجاحات مزعومة"، يثير قلقا كثيرا.

في الولايات المتحدة، حيث يقف العالم على "ساق واحدة"، بانتظار نتائج انتخاباتها في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، تصل حالة عدم اليقين إلى ذروتها، فهناك من يعتقد أن ترامب قد يسعى إلى تأجيل الانتخابات متذرّعا بوباء كورونا، لأنه بات متيقنا من الخسارة. وهناك، وهذا أكثر مدعاة للقلق، من يرى أن الانتخابات ستجري في موعدها، وأن ترامب سيخسر، لكنه سيبقى مع ذلك رئيسا! وقد نشرت "فورين بوليسي" مقالا مهما، قبل أيام، تشرح فيه في 12 خطوة كيف يمكن أن يحصل ذلك بوسائل قانونية ودستورية! مهما يكن السيناريو، نحن لا نعرف حقا ماذا سيحصل في أميركا هذا العام.

على صعيد النظام الدولي، يثير المزاج الانعزالي الذي يخيم على الولايات المتحدة، وتجري ترجمته انكفاء وتخليا أميركيا عن دورها القيادي الذي تبوأته بعد الحرب العالمية الثانية مخاوف كبيرة في العالم. بدأ هذا المزاج قبل وصول ترامب إلى الحكم، والأرجح أن يستمر بعده، ففي أوروبا يثير الانسحاب الأميركي هواجس من تغوّل النفوذ الروسي، في حين يتوجّس آخرون من صعود ألمانيا، خصوصا بعد مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، بتشجيع أميركي. في شرق آسيا وجنوب شرقها، وعلى الرغم من احتدام التنافس بين أميركا والصين، إلا أن الذعر يسري في أرجاء المنطقة إزاء الالتزام الأميركي بأمن الحلفاء، في ظل تصاعد السلوك العدائي الصيني تجاههم، ففي الآونة الأخيرة زادت بكين من وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي، ووقعت اشتباكاتٌ دامية بينها وبين الهند، في منطقة حدودية متنازع عليها، قرب الجزء الذي تحتله الهند من كشمير، وفرضت بكين قانونها على هونغ كونغ، منهية نحو ربع قرن من الحكم الذاتي فيها، وارتفع منسوب التوتر مع اليابان، بشأن جزر سنكاكو المتنازع عليها.

في المنطقة العربية، تبدو حالة عدم اليقين أسوأ، فعدا عن الجائحة والتنافس الذي يؤجّجه الانسحاب الأميركي بين الطامحين في الإقليم، تعيش المنطقة العربية حالة فشلٍ شاملٍ تقريبا. إذ تنهار الدولة في أرجائها، ويرث أدوارها مليشيات وفصائل وأمراء حرب، أو مافيات قامت بتجويف الدولة من الداخل، واحتفظت بصورتها لتحكم بأدواتها. أما حين تبدو الدولة متماسكةً في بلدان أخرى، فلا يظهر منها إلا وجهها الأمني، في حين تفشل في كل ما عداها من وظائف، خصوصا الاجتماعية والتنموية. دول أخرى باتت مهدّدة بالتشظي، حتى نظام سايكس - بيكو سيئ الذكر صار بعيد المنال.

نحن نواجه إذا تلك المرحلة التي يتحلل فيها القديم من دون اتضاح ملامح البديل، وليس هناك معضلة بالنسبة للإنسان أسوأ من الجهل وانعدام اليقين.