من يدفع الضرائب؟

من يدفع الضرائب؟

22 سبتمبر 2018
+ الخط -
لم يعد جديداً أن نعرف أن الشركات الكبرى تدفع ضرائب أقل من عامة المواطنين، وقد أصبح الحديث النقدي للنظام الاقتصادي العالمي شائعاً منذ أزمة عام 2008، لكن أن تسمع عن الأمر مختلفٌ عن أن تراه.
أدرس حاليا دورة متخصصة في الصحافة الاستقصائية المتعلقة بتتبع الفساد المالي والتهرب الضريبي. من أكثر الأمثلة الصادمة، الاطلاع على آليات تهرّب شركات القهوة الكبرى. عرض أمامنا الخبير المالي، راج بيروليا، ميزانية لشركة ستاربكس، تنتهي بأنها تخسر أكثر من عشرين مليون جنيه استرليني. واقعياً، كشف تحقيق صحافي نشرته "رويترز"، مطلع 2013، أن الشركة دفعت 8.6 ملايين استرليني فقط إجمالي ضرائب عن 17 عاماً حققت فيها مبيعات بأكثر من ثلاثة مليارات استرليني. ويسْخر السيد راج قائلاً إن هذا يعني أن "ستاربكس" هي أهم مؤسسة خيرية في بريطانيا، إذ أنها تخسر مع كل كوب قهوة تبيعه، ومع ذلك تستمر في تقديم الخدمة.
برّر مسؤولو الشركة، في البداية، أن السبب هو ارتفاع التكاليف، لأننا نستورد حبوب الكاكاو بأسعار مرتفعة، لكن ظهر لاحقاً أنه لا يتم استيراد هذه الحبوب من بلاد الزراعة، بل هناك شركة وسيطة، تملكها "ستاربكس" أيضاً، على الأرجح، مقرّها في سويسرا، ولا يمكن معرفة أرباحها بسبب قوانين السرّية السويسرية.
جانب آخر من الكلفة هو دفع "رسوم استخدام العلامة التجارية"، حيث إن "ستاربكس" الأم تمنح شركة أخرى، مقرّها في جزر الملاذات الضريبية، الحق الحصري، وهذه بدورها تبيع لشركة ستاربكس بريطانيا ما نسبته 8% من إجمالي المبيعات، أي ربما نحو نصف الأرباح تذهب مباشرة إلى هناك من دون ضرائب. وبالنمط نفسه تقريباً، تقوم شركة كافي نيرو بالممارسات نفسها، وتظهر خسارة ورقية.
نموذج صادم آخر شرحه رئيس شبكة العدالة الضريبية، جون كريستن، عن سعر الموز في بريطانيا، فواقعياً إذا بيعت ثمرة الموز بجنيه استرليني فإن كلفتها في بلد الإنتاج في أميركا الجنوبية فقط 13 بنسا، والإنسان هو الأرخص كالعادة، فلا تزيد كلفة العمالة عن 1.5 بنس، وباقي التكاليف 10%، وبنس واحد هو ربح الشركة المصدّرة هناك الذي تُدفع عليه الضرائب. وبالطبع، تملك الشركة الأم نفسها تلك الشركة، بعدها تدخل ثمار الموز في "سلسلة إمداد" معقّدة وهمية، شركة تقدّم "خدمات إدارية"، يُدفع لها عشرات الملايين بما قيمته ثمانية بنسات على كل استرليني. وحين ذهب معدّو التحقيق إلى مقرها لم يجدوا موظفا واحدا. شركة أخرى تبيع "العلامة التجارية" بقيمة أربعة بنسات على كل باوند. شركة في جزر برمودا تقدم "خدمات نقل".. إلخ، لينتهي الحال بالموزة إلى كلفة 60 بنسا، يضاف عليها 39 بنسا للنقل والتجزئة، لتصبح الشركة في بريطانيا رابحة بنسا واحدا فقط، وهذا هو ما ستدفع عليه الضريبة.
تصبح الأمثلة أكثر فجاجةً، حين شاهدنا نموذج الشركات في دول نامية، مثل شركات القمح في غانا، أو الاتصالات في نيجيريا، حيث تتداخل السياسة والفساد الصريح.
وبقدر ما تثير الصورة الغضب، بقدر ما يثير التفاؤل تصاعدُ الموجة العالمية، ولو ما زال هذا يحدث ببطء بالغ. نُشرت عشرات التحقيقات الصحافية، خلال السنوات القليلة الماضية. وأخيرا أطلق نواب في البرلمان البريطاني حملة لمقاطعة "ستاربكس"، ومرّر البرلمان البريطاني أخيراً قانوناً يخفّض من شروط السرّية في الملاذات الضريبية (وإن تم تبريره بمحاصرة رؤوس المال الروسية)، كما صدر حكم بتغريم شركة آبل مليارات الدولارات في إيرلندا وغيرها. ويحدث هذا بفضل رجال مثل جون الذي عمل أحد عشر عاماً مستشاراً للحكومة المحلية لجزيرة جيرسي، الملاذ الضريبي الشهير، أو مثل راج بيروليا الذي كان أًصلاً محاسباً لا علاقة له بالصحافة، ثم وصل إلى تأليف دليل صحافي خاص لتتبع أمثال هذه القضايا.
هذه واحدة من المعارك الكونية في عصرنا، وإن من المؤسف الاعتراف بأن مجرياتها في دول المركز هو ما سينعكس على بلادنا في الأطراف.