من يحكم تونس؟

من يحكم تونس؟

31 اغسطس 2020
+ الخط -

بين حكومةٍ منصرفةٍ وأخرى بصدد التشكل، تتواصل أزمة الحكم في تونس، وتتزايد التجاذبات الحزبية والسياسية بين المواقع السلطوية المختلفة، وهي أساسا رئاسة الجمهورية في مواجهة البرلمان والأحزاب والمنظمات والهيئات الوطنية.
بعد أن قدّمت حكومة إلياس الفخفاخ استقالتها، وعودة القرار إلى رئاسة الجمهورية لاختيار الشخصية الأقدر لتشكيل الحكومة، كما ينص الدستور، كان واضحا رغبة الرئاسة في تجاوز الأحزاب والكتل البرلمانية، ومنح مسؤولية تشكيل الحكومة الجديدة لشخصية من المحيط القريب لرئيس الجمهورية، شخصية لا ماضي سياسيا لها، ولا تجربة سابقة سوى علاقتها الوثيقة بالمحيط الضيق لرئيس الجمهورية.
لم يكن تشكيل الحكومة الجديدة يخضع لمنطق سياسي معين، باعتبار استبعاد الأحزاب من مشاورات التشكيل، لكن هذا لا يعني خلوّها من مسحة سياسية خفية، قائمة على الولاءات غير المعلنة. وأما خرافة الاستقلالية فلا معنى لها في تونس الحالية، حيث لا تكاد توجد شخصية عامة من دون حسابات سياسية، أو على الأقل الارتباط بشبكة علاقات ومصالح حزبية، فأسماء كثيرة واردة ضمن التشكيلة التي أعلنها رئيس الحكومة المكلف، هشام المشيشي، هي في الواقع ذات علاقة بلوبيات نافذة، أو أحزاب سياسية مثل نداء تونس وآفاق تونس والبديل، وهي أحزاب في مجملها مرتبطة بمنظومة الحكم التي هيمنت على البلاد زمن الاستبداد.

خرافة الاستقلالية لا معنى لها في تونس الحالية، حيث لا تكاد توجد شخصية عامة من دون حسابات سياسية

بالإضافة إلى حمّى التعيينات التي اجتاحت الأوساط القريبة من رئيس الجمهورية، من خلال منح وزارات لأشخاص مقرّبين منه، أو عملوا في حملته الانتخابية، أو من لهم صلات بالمقرّبين من الرئيس، وهو الأمر الذي جعل رئيس الحكومة المكلف كأنه مجرّد ساعي بريد، يجمع الأسماء، وليس من يقترحها. ومما أكد هذه الصورة المهتزّة لرئيس الحكومة حالتان من تعارض المواقف بين رئيسي الجمهورية والحكومة المكلف، أولها وضعية وليد الزيدي المرشح لشغل وزارة الثقافة، والذي كتب تدوينة على حسابه على "فيسبوك"، مؤكدا أنه يتعفف عن الوزارة التي لا يسعى إليها ولا يريدها، فما كان من رئيس الحكومة المكلف إلا أن أعلن عن حذف اسمه من قائمة الوزراء المقترحين، لتكون المفاجأة استقبال رئيس الجمهورية في عشية اليوم نفسه وليد الزيدي، وإعلانه أنه سيكون الوزير، في حالةٍ من تضارب المواقف أصبحت مجالا لتندّر الرأي العام. والحالة الثانية أكثر إثارة للاستغراب، فقد تضمنت القائمة التي أرسلها رئيس الحكومة المكلف إلى البرلمان اسم كمال أم الزين مرشّحا لمنصب وزير التجهيز والإسكان والبنية التحتية، قبل أن تصل مراسلة من رئاسة الجمهورية، تؤكد أن المقصود هو كمال الدوخ، وأن الخطأ جاء بسبب تشابه الأسماء، وهو موقف يكشف عن حالة من الاضطراب، وأن رئاسة الجمهورية هي من يفرض قائمة الوزراء التي تريد على رئيس الحكومة المكلف.

حالة التفتت السياسي، والصراع الحزبي، فرضت خياراتها، ليفقد موقع رئاسة الحكومة مركزيته في ظل النظام البرلماني

من الناحية الدستورية، لا يزيد دور الرئاسة عن اختيار الشخص الأقدر لتشكيل الحكومة. ومن الناحية الواقعية، استفادت الرئاسة من الوضعية السياسية المضطربة، وحالة التفتت السياسي، والصراع الحزبي، لتفرض خياراتها، وليفقد موقع رئاسة الحكومة مركزيته في ظل النظام البرلماني، حيث يتمتع بصلاحيات واسعة وقدرة على اختيار فريقه الحكومي، ليتحول إلى مجرد تابع للرئاسة، بما يشبه منصب الوزير الأول في ظل النظام الرئاسي الاستبدادي زمن زين العابدين بن علي. وهو وضعٌ أدخل البلاد في أزماتٍ متلاحقة منذ مجيء حكومة إلياس الفخفاخ، الفاقد سند الأحزاب البرلمانية، والتأييد في الأوساط السياسية، وهو ما جعل حكومته تنهار عند أول اختبار، وليخرج من الحكم من الباب الصغير، تلاحقه تهم الفساد والتربح واستغلال النفوذ. واليوم تتكرّر حالة الفخفاخ مع حكومة هشام المشيشي الذي سيظل محكوما بين تعيين رئيس الجمهورية له وقائمة الوزراء المفروضة عليه، من دون اختيار منه الفريق العامل معه، الفريق الذي سيكون فاقدا التجانس الضروري.

إلياس الفخفاخ، الفاقد سند الأحزاب البرلمانية، والتأييد في الأوساط السياسية، جعل حكومته تنهار عند أول اختبار

ولن تمرّ الحكومة من دون حصوله على الثقة من مجلس نواب الشعب الذي لن تمر الحكومة. وهو بالتأكيد لا يحظى بتأييد أي حزب وازن داخل المجلس. وإذا مرّت الحكومة فسيكون الأمر بفعل خوف النواب من حل المجلس، ولكن الحكومة ستكون بالتأكيد تحت الرقابة المستمرة للنواب، ما يجعلها عرضةً للمساءلة والإطاحة في كل حين. قد يكون المشيشي أكثر فطنةً من سابقه، ويحاول إيجاد تفاهماتٍ مع الكتل البرلمانية، لتمر حكومته. ثم في وسعه أن يُجري التعديلات التي يريد من خلال صلاحيات موقعه الواسعة، غير أن هذا الأمر سيظل مرتبطا بشخصية رئيس الحكومة المكلف، ومدى استقلاليته الفعلية، وقدرته على اتخاذ القرار خدمة للصالح العام، بعيدا عن منطق الولاءات واللوبيات.
ستتواصل الأزمة الحالية في تونس ما دامت مواقع السلطة لا تعمل بتجانس، وفي ظل حالة من التجاذبات، وحرب المواقع المعلنة بين جهات مختلفة، وسعي الرئاسة إلى لعب دور متعاظم، يتجاوز صلاحياتها وقدراتها، وهذا ما يعني أننا أمام سنوات من التنازع، لا تتحمّلها البلاد في ظل مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.