من يتحمل مسؤولية ارتفاع الأسعار في سورية...قيصر أم النظام؟

سوق خضر في العاصمة السورية دمشق
18 اغسطس 2020
+ الخط -

بقيت عتبة الأسعار في سورية مرتفعة رغم انخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار خلال الفترة القريبة الماضية إلى ما دون 2000 ليرة.

في هذه الأثناء تحصل مشادّة بين رأيين، الأول يعيد سبب ارتفاع الأسعار والمشاكل والأزمات التي لحقت بالاقتصاد السوري إلى الحصار الاقتصادي المفروض من قبل المجتمع الدولي وقانون "قيصر"، بينما يرى الآخر أن النظام يعلّق فشله على "قيصر"، وأن ممارساته تسببت في تحويل البلد لدمار وخراب.

وبين هذا الرأي وذاك كانت أسعار السلع، وبينها الخضار والفواكه، ترتفع بوتيرة غير مسبوقة عن السنوات الماضية، مثلا مع مقارنة أسعار مواد بين شهر نيسان/ إبريل 2019 وشهر تموز/ يوليو 2020 سيظهر ارتفاع بنسب راوحت بين 200 – 300%، حيث ارتفع سعر كرتونة البيض من 1200 ليرة إلى 3500، والفروج من 800 إلى 3500، والتفاح من 300 إلى 1000 ليرة.

وبحسب حسابات صحيفة قاسيون، فقد ارتفعت أسعار الجملة للخضار والفواكه الأساسية بين نيسان 2019 ونيسان 2020 للحمضيات بنسبة 370%، والثوم 300%، والتفاح 266%، والبندورة 254%، والبطاطا 216%، والخيار والبصل 200%. وارتفعت كلفة سلة الغذاء في نيسان الماضي على أساس سنوي 105%، بحسب برنامج الغذاء العالمي. كل هذا أدى لارتفاع عدد من يعانون على الصعيد الغذائي إلى 9.3 ملايين شخص، بزيادة 1.4 مليون في الأشهر الستة الأولى من 2020.

قانون "قيصر" كشمّاعة

وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على قانون "حماية المدنيين السوريين" المعروف بـ"قيصر"، في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2019، وسرى تنفيذه في 17 حزيران/ يونيو 2020، يفرض بموجبه عقوبات قاسية جداً ضد أطراف ثالثة تتعامل مع النظام، وبالتالي يستهدف كل أجنبي يدعم النظام بالسلع والخدمات والتكنولوجيا بما يسهّل توسيع الإنتاج المحلي للنظام من الغاز الطبيعي أو البترول أو المنتجات البترولية وتوفير الطائرات وقطع غيار لها وتقديم خدمات بناء أو خدمات هندسية للنظام بشكل مباشر أو غير مباشر.

في 25 تموز استجدى مندوب نظام الأسد في الأمم المتحدة بشار الجعفري، الدول الأوروبية لرفع العقوبات عن النظام، وادّعى في كلمة خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي، أن "الحفاظ على السلم والأمن الدوليين يستدعي ضبط ممارسات حكومات الدول المعادية لسورية وغيرها من الدول التي تنتهك مبادئ القانون الدولي..."، وغازل الأوروبيين بقوله إن اسم أوروبا "هو اسم الأميرة السورية، أوروبا، التي أحبها كبير الآلهة اليونانية زيوس وخطفها لليونان ومنها أخذت أوروبا اسمها".

تجلّت آثار القانون منذ توقيعه في نهاية 2019، من خلال سريان حالة من الغموض وعدم اليقين في الاقتصاد السوري بعدما أغلقت الولايات المتحدة عدّة ملفات على النظام، بينها إعادة تطبيع العلاقات وشرعيته من قبل بعض الدول في المنطقة، وإغلاق ملف إعادة الإعمار وتمرير الأموال لدعمه في المرحلة المقبلة، وتجفيف منابع تمويل النظام عبر عرقلة طرق التهريب التي كان يتبعها عبر المعابر الرسمية وغير الرسمية، بالأخص من لبنان، وجعله منبوذاً في محيطه فلا ترغب الدول والشركات في التعامل معه لتجنب العقوبات.

وأخيراً تقليص قدرة حلفاء النظام، إيران وروسيا، على مد يد العون له من خلال المساعدات المالية والمادية. بهذه الأطر أدخل قانون "قيصر" الاقتصاد السوري في غمار مرحلة جديدة يختبر بها قدرة النظام على تجنب العقوبات ورغبة الروس في دفع ملف الانتقال السياسي إلى الأمام.

الأثر البارز الذي خلّفه قانون "قيصر" هو تجييش شعور غامض لدى المواطنين والتجار والأسواق، مرده أن الاستثناءات المتضمنة بالقانون للمساعدات الإنسانية بالكاد تعطي ضمانات بعدم الاستهداف بالعقوبات، إذ ستتم مراقبة كافة العمليات المصرفية والصفقات التجارية لضمان عدم استفادة النظام وقيامه بأي عمليات غسيل أموال أو عمليات مشبوهة تصب في مساعدة النظام ضمن بنود "قيصر". 

وهو ما يعزز مخاوف التجار والمتنفّذين من استهدافهم بالعقوبات، فترتفع الكلف بذريعة ارتفاع كلفة التأمين والنقل وبسبب قساوة العقوبات وقلة الدولار، وينعكس هذا على الأسعار ارتفاعاً وربحاً وفيراً على المتنفذين وكبار التجار، بينما يبقى المواطن صاحب الحلقة الأضعف، الذي سيسمع سيمفونية أن العقوبات والحصار الاقتصادي هما السبب.

وتضررت الليرة السورية لتنخفض بمقدار 121% بين كانون الأول 2019 وتموز 2020 (950 ليرة - 2100 ليرة)، حاول النظام جاهداً فرض سياساته النقدية لفرض هيبته وإعادة التوازن لها، متبعاً عدة سياسات، بينها: تشديد القبضة الأمنية على مكاتب الصرافة والحوالات، وتعديل سعر الصرف الرسمي من 434 ليرة إلى 700، ومن ثم إلى 1250 ليرة، لجذب الدولارات المتداولة ضمن السوق السوداء، وإصدار سندات خزانة مقوّمة بالليرة السورية على دفعتين لسحب جزء من السيولة النقدية بالأسواق، في محاولة للسيطرة على الأسعار وضخ دولارات في السوق بدون إعلان مسبق، وأخيراً اللجوء لرجال الأعمال والمقرّبين منه تارة بحجة الدفاع عن الاقتصاد والليرة وتارة أخرى عبر محاسبتهم بذريعة مكافحة الفساد.

على الرغم من كل تلك السياسات إلا أن الليرة ارتفعت لتلامس مستوى 3175 في حزيران الماضي، وهو ما يشير لعدم اقتناع الأسواق المحلية بجدوى إجراءات النظام وسياساته، وأنها لا تعالج هيكل الاقتصاد الهش الذي ما عادت تُصلحه مثل تلك الإجراءات. ومما ساهم في إعطاء زخم لارتفاع سعر الصرف، إجراءات الحجر الصحي التي اتخذتها الحكومة جراء تفشي فيروس "كورونا"، واشتداد الأزمة المالية في لبنان، وتقييد حركة أموال المودعين السوريين في لبنان، وأخيراً الأزمة بين رامي مخلوف والأسد، والتي أحدثت ضرراً بالغاً بالأسواق نتيجة اشتداد المضاربة على الليرة خوفاً من تدحرج الوضع وعدم قدرة الأسد على السيطرة.

 

النظام هو السبب

من جانب آخر، يتحمل النظام الجانب الأكبر من ارتفاع الأسعار من خلال سياساته التي مهّدت لاقتصاد الحرب في سورية عبر زيادة الإنفاق العسكري، وتوجيه كافة الموارد المالية لخدمة الآلة العسكرية. وهو ما غيّر من هوية الاقتصاد والأسواق والتجار وأشكال النشاطات الاقتصادية في سورية على مدار السنوات الماضية.

وبعدما فقد البلد مصادر الدخل الرئيسية في الموازنة العامة، انخفض إنتاج النفط بواقع 93% وإنتاج الغاز بواقع 50% ومن ثم انكشف النظام على داعميه، إيران و"حزب الله" وروسيا، لتعويض النقص الحاصل في مواد الطاقة التي أثّرت بدورها على توليد الكهرباء ما تسبب بانقطاعات مستمرة بالتيار الكهربائي، ووصلت ساعات التقنين لـ20 ساعة في دمشق. كما انعكس انخفاض كميات المنتجات البترولية من بنزين ومازوت وغاز في الأسواق بارتفاع في تكاليف المواد الأولية وأضرار لحقت بكافة القطاعات الاقتصادية، وبالأخص الزراعة.

كما حاول النظام في سبيل تعويض النقص الحاصل في مصادر دخل الموازنة العامة، من سياحة واستثمارات وصادرات وأوعية ضريبية مختلفة، زيادة التمويل بالعجز بشكل زاد من كمية النقود المعروضة في السوق بنسبة 280% بين 2010 و2016، واستمر في هذه السياسة خلال السنوات اللاحقة.

ومع نفاد الاحتياطي الأجنبي في المصرف المركزي، وهبوط في الإنتاج بمعدل 60%، فقدت الليرة قوتها الشرائية، ولم يعد الأجر الوسطي البالغ 50 ألف ليرة يكفي لسد احتياجات المواطن الأساسية خلال الشهر.

وبالنظر إلى سلسلة العقوبات المفروضة على النظام ما قبل قانون "قيصر"، فقد اعتمد النظام على شبكة واسعة من الأشخاص والشركات للتهرب من العقوبات، وبات التهريب أحد المصادر الرئيسية للإيرادات ويورد من خلالها كافة احتياجاته، من الغذاء إلى الدولار إلى الأسلحة والذخيرة وحتى المخدرات.

وجاءت الأزمة المالية في لبنان لتحاصر النظام أكثر، وتحد من عمليات التهريب تلك ومن استخدام لبنان كقناة للتهرب من العقوبات والقيام بالعمليات المشبوهة، فقوّضت تلك الأزمة وإجراءات الحكومة اللبنانية من وصول السوريين إلى حساباتهم المصرفية في المصارف اللبنانية وتحريكها.

أخيراً، يعد قانون قيصر أحد القوانين التي تفرض عقوبات قاسية لا شك ستؤثر على المدنيين، في حين أن من جلب هذا القانون هو النظام، وهو من يتحمل الفشل والأزمات الاقتصادية التي وقعت بالبلد، ومن بسببه تحوّل البلد إلى بيئة نزاع وسّعت من السوق السوداء والمتنفّذين فيها، ومن عمليات الاحتكار والتخزين والتربح الفاحش، جاء قيصر ليضيّق على السوريين معيشتهم بسبب ممارسات وسلوك النظام الذي أقرّ المجتمع الدولي بأن الطريقة الوحيدة لتعديل هذا السلوك هو العقوبات الاقتصادية.​