من نهاية التاريخ إلى هشاشة العالم والاستقلال الاستراتيجي

من نهاية التاريخ إلى هشاشة العالم والاستقلال الاستراتيجي

25 يونيو 2020
+ الخط -
عندما صدر كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، للأميركي فرانسيس فوكوياما، بداية التسعينيات، في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار جدار برلين واختفاء المعسكر الاشتراكي، لتقبر معه مسألة الثنائية القطبية. كانت الطريق قد أصبحت سالكة لتنفرد الولايات المتحدة الأميركية بالتربع على عرش قيادة العالم، وإعلان نفسها القوة الاستراتيجية الوحيدة والمطلقة في العالم.
وكان لافتا استقبال الكتاب بكثير من الحفاوة الممزوجة بالذهول والدهشة الفكرية، وأيضا بالتردّد حيال الحسم في مصداقية (وعلمية) ما جاء به من نبوءات جيواستراتيجية وتبشير أيديولوجي غير مسبوق، علما أن نخبا في دول كثيرة، بما فيها التي تنتمي إلى المنطقة العربية، رأت في أطروحة فوكوياما ثورة فكرية وزلزالا مفاهيميا كفيلا بإحداث مراجعات جذرية لجملة من المسلمات والثوابت، خصوصا عندما لمست أن الفكرة المحورية وقطب الرحى في الأطروحة يكمنان في أن الديمقراطية الليبرالية تشكل نهاية التطور الأيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري. ولإضفاء الشرعية البرهانية والعلمية على مقاصده الأيديولوجية الصرفة، يستشهد فوكوياما بهيغل وماركس، وهما صاحبا رؤيتين متناقضتين في التأسيس لمفهوم الديالكتيك وتفسير العالم. ومع ذلك، استثمرهما في الترافع عن مشروعه. ويحاول فوكوياما، كما يذهب إلى ذلك عبد الله إبراهيم في كتابه "المركزية الغربية .. إشكالية التكون والتمركز حول الذات"، أن يصطف عبثا إلى جانب هيغل وماركس وكانت، فهيغل يعتبر أن العقل هو محرّك التاريخ، وغايته تحقيق الروح الإدراك المطلق لذاتها، أي حضور الفكرة الشاملة في الوجود. ويعتبر ماركس أن محرّك التاريخ هو فعل الإنسان، وغايته امتصاص التناقضات الطبقية، وإذابة الفوارق الاجتماعية، وصولا إلى عالم مطلق من المساواة. أما فوكوياما فقد قرّر أن النفس الباحثة عن اعتراف الآخرين بها هي المحرّك للتاريخ، وأن غايتها انتزاع الاعتراف الذي سيؤدي إلى نوع من السيادة التي تتحقق في فضاءٍ حر ديمقراطي.
ويشرح فوكوياما، في أطروحته، أنه كان في اعتقاد هيغل وماركس أن تطوّر المجتمعات البشرية ليس إلى ما لا نهاية، فالنهاية تتمثل لدى هيغل بالدولة الليبرالية، وعند ماركس بالمجتمع 
الشيوعي. وهنا يريد إقناعنا بأن الديمقراطية الليبرالية هي المطلق السياسي والاقتصادي والاجتماعي لحل جميع المشكلات والتناقضات داخل المجتمعات. وبهذا يكون التاريخ قد وصل إلى نهايته، منطلقا من فرضيةٍ أساسيةٍ تكمن في هزيمة الأيديولوجيات السياسية التي تملك الصفة العالمية، كالأيديولوجيتين الصينية والإسلامية. وفي المقابل، تعزيز انتصار الديمقراطية الليبرالية على مستوى العالم، نتيجة الهزيمة التي منيت بها الأيديولوجيات المنافسة، أي أن وراء انتصار الديمقراطية الليبرالية تكمن عناصر القوة وإرادة الهيمنة والحرب، وليس نتيجة للتطور التاريخي والطبيعي للفكر البشري، أو نتيجة القناعة البشرية بأن التاريخ سينتهي، بصورة حتمية أو قانونية، نحو الديمقراطية الليبرالية التي تجسّدها الولايات المتحدة، باعتبارها النموذج العالمي للديمقراطية الليبرالية. وهذا هو القصد والهدف المركزي الذي نافح عنه كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، فبناء على جملة من القطائع والتحولات السياسية والاقتصادية والثقافية والانهيارات التراجيدية التي مسّت منظومة التوازن الاستراتيجي، في العقد الأخير من القرن العشرين، يفصح فوكوياما عن خلاصة أطروحته أن الإنسان الغربي حقق غايته في الحياة، وتمكّن من انتزاع اعتراف الآخرين. وتأسيسا على ذلك، تم وضع نقطة نهاية للتاريخ.
غير أن فوكوياما، ومن خلال تفاعله مع جائحة "كوفيد - 19" العالمية لا يبدو شديد الوثوق بأطروحته، نهاية التاريخ، حيث سجل ما يشبه مراجعة لما اعتبرها مسلّمات نهائية. ويشكك في حقيقة قدرة الصين على مكافحة الفيروس المستجد، معللا ذلك بأن إدارتها الأزمة لم تتم بما يكفي من الشفافية، وتأخرت كثيرا في إخبار العالم ببداية انتشار الوباء، ولم توفّر معلومات ومعطيات صحيحة. وهنا يلتقي المفكر المعروف مع اتهامات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لقادة الحزب الشيوعي الصيني، بما في ذلك تحميل بكين ضمنيا مسؤولية تفشّي الوباء في العالم. واعتبر فوكوياما، في مقال نشره أخيرا، مع انتشار الوباء في الولايات المتحدة، ما مؤدّاه أن الناس، بعد السيطرة على الجائحة، لا يسألون عن طبيعة النظام، ديمقراطيا أم ديكتاتوريا، بقدر ما يتمحور سؤالهم عمّا إذا استطاعت حكومتهم أن تتحكّم في تفشي الوباء بما يلزم من المهنية والكفاءة. ومن هنا مصدر قلقه إزاء الثقة المنعدمة في الحكومة الأميركية الحالية. وحسب رأيه، فإن الثقة، في ظرفية حرجة كهذه، هي العنصر الحيوي الذي يمكّن من الخروج من الأزمة بأقل الخسائر، مستنتجا أن الثقة، للأسف، هي بالضبط ما تفتقده الولايات المتحدة اليوم. من الواضح أن الإدارة الأميركية الحالية ظلت تتمسّك بخيار أميركا أولا، فحتى في معركة البحث عن لقاح ضد وباء كورونا المستجد، بدا جليا أن أميركا تفكر في نفسها، من دون اكتراث بمصير مليارات البشر. وقد جعل هذا السلوك معظم شعوب العالم تنزع ثقتها عن الشعارات البرّاقة التي طالما تشدّقت بها النخب الحاكمة في واشنطن.
مؤكّد أن وباء كورونا أفرز ممارسات أنانية، فكل منظومة أو دولة جعلتها فجائية وسرعة تفشي الفيروس، وقدرته الفائقة على القتل، تفكّر في ذاتها. وقد كشف هذا المنطق عن حجم الخوف المتجذر في الإنسان واستعداده الفطري للإقصاء، بصرف النظر عن القيم التي تلقاها في تربيته وتعليمه.
لقد ظهر العالم، بفعل تداعيات جائحة كورونا، موغلا في الهشاشة، وأصبحت قيمه ومعاييره 
ومراجعه ومفاهيمه تتغير بوتيرةٍ سريعة، وأحيانا مرتبكة، فالاتحاد الاوروبي عمد إلى التفكير في إعادة هيكلة منظومته، بناءً على جغرافية جديدة وبملامح مغايرة، في إطار ما يمكن تسميته البحث عن الاستقلال الاستراتيجي الذي بات معادلا للسيادة الاقتصادية والصناعية والعلمية والطبية والإنتاجية. وهذا ما يدافع عنه بحماس الرئيس الفرنسي ماكرون. وهناك أصوات ارتفعت في أوروبا، تطالب بإعادة النظر في النظام الرأسمالي والديمقراطية الليبرالية، بما يجعله قادرا على استيعاب التداعيات المختلفة التي نجمت عن جائحة كورونا، واقتراح حزمة بديلة من الإجراءات والتدابير، وأنسنه العلاقات والتعاقدات، واحترام البيئة، والإسهام في تقليص التفاوتات الاجتماعية، وتعزيز نظم الحماية الصحية والاجتماعية.
وغير بعيد عن هذا التوجه، يدعو فوكوياما إلى العودة إلى الليبرالية، بالصيغة التي كانت عليها خلال خمسينيات القرن العشرين وستينياته، ففي تلك الفترة، تم التوفيق بنجاح بين معادلة اقتصاد السوق، واحترام الملكية الخاصة، والدولة القوية والناجعة. ويستنتج من هذا الطرح أن فوكوياما يراهن على ضرورة أن تضطلع الدولة بدور الضامن للعدالة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا ما يمكن اعتباره نقدا ذاتيا، يوجهه صاحب "نهاية التاريخ .." إلى الديمقراطية الليبرالية، والنيوليبرالية باعتبارها مرحلة متقدمة من الأزمة التي تخنق النظام الرأسمالي، والتي كرّست علاقات مختلة بين الاقتصادات القوية والضعيفة، وأنتجت أوضاعا كارثية ومزمنة في الدول الفقيرة والغنية على حد سواء.