من نحاكم ومن يدفع الثمن؟
من نحاكم ومن يدفع الثمن؟
أصبحنا نخشى من" الكلمة"، نعرف، في أحيان كثيرة، كل شيء ونصمت، وتخرس ألسنتنا عن البوح، لأن ضريبة الكلام معروفة ومحسومة. في بلداننا العربية، اشتهرت مقولات من نوع "الحيطان لها آذان"، وحيكت القصص، وتفنن أصحابها في الرواية الشعبية السهلة السريعة، الزائفة أحياناً، لبث الرعب وتخويف الناس، حتى من زيارة الفكرة مخيلتهم، عملاً بقولة أحد جبابرة العرب: "إني رأيت رؤوساً قد أينعت وحان قطافها".
انتشر الخوف والجبن، فصار الصمت العاجز الأصل، وأصبح كل غيور صادق وطني متحدث بالحق مشوشاً أو فتاناً، أو عدمياً في أحسن الأحوال، بل ذهب بعض "خدَمة" المعبد إلى أن هناك من يتاجر بمآسي الناس لتغليف "النضال"، فيصير بذلك معادياً للاستقرار مجافياً لنعمة "المنظر الأوحد" و"القائد الملهم".
نعم، سادتي الكرام إنها "الكلمة" التي نصبت من أجلها المشانق، وامتلأت سجون منطقتنا العربية بصراخ أصحابها، تحت ظلمات التعذيب والمعتقلات والانتهاكات، فصرنا أضحوكة العالم في كل شيء، وغابت عنا قيم الحرية والكرامة والعدالة، وحل محلها الظلم والجور والطغيان. فصرنا عبيداً لسادة العالم الذين يحشدون الدعم، يطورون ويصنعون ويحصدون النجاحات، ونحن في الخيبة والفشل غارقون.
وكلما ارتفعت أصوات المطالب، أو استجدّت رياح "التغيير"، عادت "الأسطوانة المشروخة" والوعود والآمال إلى الواجهة، وأطلت علينا خطب التلفزيون الرسمي أن الغد أحسن من الأمس، وأن الأمور إلى تحسن، وأن السنوات العجاف ذهبت إلى غير رجعة، لكنها سرعان ما تتبدد على صخور الواقع المر، الجامد الهامد، لأن كل محاولة إصلاح تلتهمها "الآلة الاستبدادية" التي تراكمت، وتطورت وتغولت، مع السنين.
ثمن صمتنا وعجزنا ندفعه يومياً، ونراه جميعا في إداراتنا ومستشفياتنا ومدارسنا، حتى في أسرنا، إعلامنا وتربيتنا، في كل مبادرة أو محاولة "إصلاح من الداخل"، والويل لمن تجرأ على الكلام، لأن التهم جاهزة، والملفات المطبوخة جواب كل صوت خارج السرب مغرد، وكما قال أحد العقلاء:"أنا ممنوع من التفكير، وأخشى أن أحرك ذهني، فتعصر الدولة دُهني".
حتى الأنظمة، الآن، تؤدي الثمن بعد تفريخ التطرف والغلو على أيديها، لما نعيشه من فقر وتهميش وبطالة وانتكاسات على جميع المستويات، ولتضييقها على الحركات المجتمعية المعتدلة الحاملة لمشروع "الخير"، وتفجر ذلك الغضب المكبوت في قلوب وصدور كثيرين، لأنه لم يجد التعليم المتطور الراقي الحداثي.
ولعل الأجيال المقبلة، إن هي كرست الدور نفسه، ستجد نفسها على الرحى نفسها، تطحنها "سموم" الصمت القاتل، أو الكلام المقيت المحدد، فلا تكاد تجد لها نفسا أو معنى، منخورة من دواخلها، متنكرة لإنسانيتها المفطورة على حب العدل والحرية والكرامة الآدمية.
جمدت الطاقات، وخارت القوى، ويئس الناس من عدلٍ طالما انتظروه، بل انتشرت الذهنية الرعوية القاعدة التي تحلم بمن يفعل، وهي تتفرج خرساء، وانتشرت الخرافية لقائد ملهم يأتي من السماء، حاملاً سيفه ليبدل الأرض عدلاً بعد أن امتلأت جورا. الصمت جريمة نمارسها يوميا في حق بعضنا، نتبادل تحايا الود، وربما المجاملة ونعلم حالنا أين وصل، لكننا نتعايش بل ونطبع مع هذا الوضع القائم: ليس بالإمكان أحسن مما كان، فالغالب بالسيف بيننا جبار، يسجن وينفي ويقتل.
ثم ماذا بعد! نرى المظلوم يئن، والمعدوم يمد اليد، والشوارع تمتلئ عويلاً وتسكعاً وتشرداً، ثم نغض الطرف، ما الذي يعنيني، وقد أكون مستقر الحال في نعيم مقيم؟ وما عساي، وأنا المواطن البسيط أن أقول؟
وأكبرُ من هذا الجرم صمت النخبة، عجز المثقف والأستاذ والإعلامي والرياضي، انخراط الجميع في الجوقة الرسمية، لتغدق عليهم المناصب والمكاسب، أو منهم من حشروا أنفسهم في زاوية "حالهم"، حتى فنانونا أبوا إلا أن يجاروا الموجة والنغمة، فتحولوا مهرجين يمدحون "الأعتاب"، وصوتاً لمن يدفع أكثر في العلب الليلية، وحانات "البذخ"، فتركوا معاني "الفن" السامية، وتحولوا إلى شيء آخر أعاف أن أسميه، ولا يعدو تغنّيهم إلا تكراراً للموال نفسه، لتفتح لهم قاعات العَرض والمسارح، وهم صفوة المجتمع وحسّه الراقي الذوقي والجمالي، فآل حالهم لما نرى ونسمع، كثيرون منهم لا يتوفر على قوت يومه، أو مسكن يؤويه، بعد أن طواه النسيان، ولم يؤسس لنفسه مشروعاً، أو رسالة خير، ينفق منه على نفسه بعد رحيله، وفيهم الغني الذي توفر على المال، لكنه غير ذي قيمة، فإذا مات بئيساً فقيراً، لا أقل أن يرحل بكرامة وشرف واعتزاز، ويخلد نفسه في سماء الإبداع والوطنية والصدق، لأنه حمل هموم جمهوره وقضية بلده، وجعل من عمره خدمة للقيم الجمالية الأصيلة.
في أي محكمة وأي ملفٍ، يمكن أن ندرج هذه الجريمة النكراء، "الصمت"؟