من نجومي الزاهرة في مطاعم مصر القاهرة (1)

من نجومي الزاهرة في مطاعم مصر القاهرة (1)

10 سبتمبر 2020
+ الخط -

كان ولا يزال وربما سيظل أجمل مسمط أكلت فيه في حياتي، مع أنني حين دخلته أول مرة لم أكمل دقيقتين فيه من فرط كراهيتي له.. كنت قد ذهبت إليه بناءً على ترشيح عابر سبيل سألته عن "مكان كويس الواحد ممكن يلاقي فيه شوربة عدس"، كان السؤال غريباً ومثيراً للشك، لأن الوقت كان قد قارب منتصف الليل، لكننا كنا في عز الشتاء، مما أعطى للسؤال وجاهته. اتضح أن من سألته كان من أهل المنطقة، ولذلك عرف أن سؤالي لم يكن عشوائياً، وأنني كنت أقصد مطعماً صغيراً انفرد عن غيره من مطاعم القاهرة بقائمة طعام جميلة وقصيرة تحتوي على "فتة عدس"، وهو أمر يشبه في ندرته وجود مطعم يقدم لرواده طبقاً بيتياً مثل "كفتة الرز".

كنا وقتها في عام 1993، وكنت من مدمني التردد على سينما رويال نجمة سينمات الدرجة الثالثة، وشقيقتها سينما الكورسال التي كانت تحمل في الزمن الغابر اسم (سينما علي بابا)، لأستمتع بفكرة "الأفلام الأربعة في بروجرام واحد" التي تنسيك هموم الدنيا، وحتى حين يبتليك الزمان بأفلام لمحمد عوض وسمير صبري وسنتيا روزروك وتشاك نوريس، كنت أسلي نفسي في انتظار الفيلم التالي، بالفرجة على رواد السينما، فتسليني الفرجة أحياناً، وتربكني أحياناً، وتوصلني في أغلب الأحيان لحمد الله على أنني لم أصل بعد إلى "الدرجة دي".

كنت في ليالي الشتاء، أضحي باستكمال الفيلم الرابع وأخرج من السينما إلى ذلك المطعم الصغير الذي كان يواجه مبنى ضخماً يتبع وزارة الكهرباء على يدك الشمال وأنت قادم من الإسعاف، لأستمتع بطبق شوربة عدس بالشطة والليمون، أعقبه بطبق فتة عدس وصاية مع قليل من البتنجان المخلل بمزاج، فتهون علي بعدها الدنيا وما فيها، "وأمشي الهوينى كما يمشي الوجى الوحِلُ" حتى أبلغ موقف الميكروباص أمام جامع الفتح في ميدان رمسيس، فتعيدني تفاصيله الكريهة إلى واقعي الذي نجحت في الهروب منه لساعات.

لذلك، كان مربكاً ليلتها، ألا أجد مطعم العدس مفتوحاً، وهو الذي كان يواصل عمله حتى الواحدة صباحاً، بل ولا أجد أثراً ليافطته الملفتة في أناقتها، مقارنة بيُفط المحلات الكالحة المجاورة له، وكأنه لم يكن هنا قبل أسبوع واحد، ولولا أنني أكلت فيه على مدار عام بأكمله، لظننت أنني اختلقت وجوده، لأستعيد عشقي لفتة العدس أحد أجمل أطباق جدتي وأمي، وهو تفسير كنت سآنس إليه لولا التفسير الحزين الذي قاله لي ابن بولاق أبو العلا الذي كان مدمناً مثلي للمكان ومعجباً بنظافته ولطف صاحبه: "حد من ولاد الحرام اللي فاتحين حواليه وكارهينه.. ظَرَفه شكوى بنت وسخة، فبتوع الصحة حطوه في دماغهم، والظاهر إنه كان شايل ومعبّي من الدنيا فدب خناقة مع مفتش رِزِل منهم، فالشيطان ركبه وقام ضرب المفتش بسكينة كيّحه وراح في توكر يا ولداه".

بعد عامين، سأعود إلى المسمط برفقة صديق من أولياء الأكل الصالحين، كان من مريدي المكان، فأكتشف بفضله أن جليطة الجرسون وتناكة الطباخ لم تكن موجهة ضدي تحديداً، بل كانت جزءاً من شخصية المحل

قصة حزينة من قصص القاهرة، تتأكد حين تسمعها أن الإنسان في نهاية المطاف تافه وأناني، لأنه حين يسمع قصة صادمة مثل هذه، ضاع فيها مستقبل مواطن محترم لأنه لم يتمتع بالغلظة الكافية للبقاء، يجد نفسه لا يكف عن التفكير في فتة العدس التي لم يجد لها مثيلاً في كل مطاعم القاهرة التي لف فيها السنين الفائتة، وينشغل بحزنه على فراقها عن السؤال عن تفاصيل أهم في القصة، وهو ما أدركه شريك اللحظة وترجمه في تأكيده على أن "انسى يا كابتن.. تلاقي حد نَفَسه حلو في الأكل كده.. ده غير النضافة طبعاً.. هو كان غالي شوية بس كان تمنه فيه والله، يالله ربنا يفك سجنه ويجمعنا بيه على خير"، قبل أن ينتقل بدون مناسبة إلى نقد عشوائي للمطاعم المجاورة التي يُشتبه أن يكون أحد أصحابها سبباً في ضياع مستقبل الطاهي المزاجاتلي الذي أخلص للعدس في الشتاء وللمكرونة الباشميل في كافة الفصول، ليقدم تجربة مشرفة في فكرة التخصص بدلاً من الرطرطة، لكن أولاد الحرام لم يكتبوا لتجربته الفريدة أن تكتمل.

كنت على وشك الانهيار من الجوع، فلم أشجع البولاقي الودود على الاسترسال في تقييم أداء المطاعم المجاورة، وأعدت تذكيره بالسؤال الذي كان سبباً في تعارفنا، فأعاد تذكيري بفداحة خسارتنا: "يا راجل حرام عليك.. طب بالذمة عمرك شفت مطعم في البلد الوسخة دي بيقدم شوربة عدس نضيفة كده.. دي ما تلاقيش زيها غير عند مطعم الألفي بك اللي في التوفيقية ولا في مطاعم الفنادق لو كان معاك تمنها"، فتغاضيت عن عدائية الإشارة الأخيرة، وأدركت أنني لن أجد لديه إجابة شافية، وفكرت في أن سندوتشات مطعم (آخر ساعة) في التوفيقية، ستكون بطعمها البديع حلاً عاجلاً لتعويض بعض من خسارة الفقد، وقبل أن أشكر سعيه وأطلب من الله أن يحسن عزاءه، أشار باصبعه إلى الشارع الذي يتوسط بلوك السينما وبلوك مبنى وزارة الكهرباء، وقال إنني لو دخلت فيه وأخذت أول شمال، سأجد مسمطاً يقدم طبقاً يجمع بين الشوربة والفتة بشكل لم ير له مثيلاً، وأنني ربما أجد لديه في هذا البرد بعض ما يعزيني عن فقدان فتة العدس، وقبل أن يستفيض في شرح مكونات الطبق، رميت عليه السلام والتقدير، وطرت باتجاه المسمط.

كان المسمط في ظهر سينما رويال لَزَم، بحيث تسمع صوت الأفلام ودوشة الصالة حين تجلس في ترابيزاته القليلة المنصوبة في الشارع، قلقت حين وجدت أغلب الترابيزات خالية، خاصة أن مطعم السمك المجاور له كان مزدحماً بشدة، وبواخة مقابلة الجرسون ـ إن صح أن نسميه جرسوناً ـ فور أن دخلت إلى المحل، زادت قلقي ولفتت انتباهي إلى غياب النظافة عن المكان، وإلى غرابة المقلاة السوداء الضخمة التي يقوم شخص غاضب بتقليب فواكه اللحوم الموجودة فيها بعصبية لا يحتاجها دخولنا على منتصف الليل، إلا لو كان سببها الإحساس بأن رزق اليوم لم يكن واسعاً، لينقطع استرسالي في تفلية المكان بصوت الجرسون المتجهم: "هتاخد إيه يا أخينا؟"، وهو سؤال لم يكن من الموفق أن أرد عليه بسؤال: "عندكو شوربة؟"، خاصة أنني قادم أصلاً من أجل الشوربة التي حدثني عنها البولاقي الودود، لينظر لي الجرسون الرزل بقرف، ويتركني ليخرج إلى ترابيزة في الشارع طلب روادها الحساب، فأترك له المحل وأنا ألعن الأيام التي جارت على برنس العدس، وسابت جلياط المسمط، ليتطاول على خلق الله الراغبين في شوربة تقصّر ليل الشتاء.

بعد عامين، سأعود إلى المسمط برفقة صديق من أولياء الأكل الصالحين، كان من مريدي المكان، فأكتشف بفضله أن جليطة الجرسون وتناكة الطباخ لم تكن موجهة ضدي تحديداً، بل كانت جزءاً من شخصية المحل، ودرك أن الشوربة التي حدثني عنها ذلك البولاقي الذي ربما كان ملاكاً مكلفاً بمساعدة الجائعين الضائعين في ليل المدينة، كانت شيئاً فريداً بالفعل في جمعها بين الشوربة والفتة وبعض من البهاريز وكثير من التوابل، وأنك لو طلبت معها طبق مشكل وبعضاً من الممبار والسلطة، ستسبح بحمد ربك وتكون من الشاكرين، وستتأكد أن حكاية "لاقيني ولا تغدّيني" هذه قد تصلح للعزائم والولائم، لكنها لن تكون ذات أهمية في المطاعم التي تدفع فيها دم قلبك، والتي ستغنيك فيها طعامة الأكل عن رخامة الجرسون، خاصة إذا جمع المطعم بين الحسنيين: الأكل الحِرِش والسعر المهاود.

منذ تلك اللحظة أصبحت زبوناً مستديماً يؤمن بقول الشاعر "فلا بد دون الشهد من إبر النحل"، وهو ما شاركني فيه كل أصدقائي الذين عرفتهم على المكان وأصبحوا من مدمنيه، حتى أن أحدهم وهو النِمَكي الذي لا يدخل مطعماً إلا وقام بتفتيشه للحكم على نظافته وشياكته قبل أن يجلس على الكرسي ويطلب الأكل، تخلى بعد أول زيارة لذلك المطعم عن كل اشتراطاته الصحية المعقدة، وكان يكتفي كلما ذهبنا إلى المكان باصطحاب شريط (فلاجيل)، يبلبع منه قرصاً بعد الأكل، ويوزع علينا الباقي، حتى أنني رأيته مرة ينظر بابتسامة متسامحة إلى صرصار صغير مرق سريعاً إلى جوار طبق المرق الذي كان صاحبنا يغترف منه، وحين نبهته إلى وجود الصرصار لأستفزه، أكمل التعامل مع الطبق وقال لي: "ما تنساش إننا بناكل في الشارع، مش ذنبهم يعني"، ثم عاد لضرب الشوربة التي لم أشهد لها مثيلاً، وأنا من عشاق الشوربة الذين يعتبرونها ركناً من أركان تمام الطعام.

...

نكمل الحكاية غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.