من نافذة المطار

من نافذة المطار

20 يونيو 2019
+ الخط -
من نافذة المطار أترقب رحلتي وأتابع الوقت بدقة، لقد وصلنا مبكرين إلى المطار قبل موعد الرحلة بثلاث ساعات تقريباً أو يزيد على ذلك، القلق الذي يصحبك قبل موعد السفر مفزغ جداً.

منذ أول مرة سافرت فيها إلى اليوم، أعد الأيام لموعد السفر، وعندما يأتي الموعد المرتقب أكون مرتبكاً كثيراً، ربما الناس يتفاوتون في هذا الأمر، لكني أجزم أن الغالبية يعيشون حالتي أو قريبا منها.

نذهب إلى المطار مع صديق أو مع أنفسنا في معظم الأحيان، تتبادر في نفسك أحاديث كثيرة، منها أن الوحدة المتعاقبة والجاثمة على صدورنا مخيفة للإنسان، سفر وعمل ونشاط وأكل وشرب لوحدك، رغم أننا ألفناها لكنها في بعض الأحيان تغدو متعبة ومرهقة.

رغم حديثي عن الوحدة لم أسافر إلى اليوم بمفردي إلا ثلاث مرات، وبقية السفرات بصحبة أصدقاء، الصحبة في السفر مهمة بل ضرورية، تخفف عنك عناء الطريق. وكما هو الحال قصدنا المطار مع أصدقاء، ومن باب الطرفة لا غير أخذ أحدهم مجموعة من المقاعد ونام عليها وربما هو الآن في عالم الأحلام، والثاني يعبث بجواله وحاسبته، وأما أنا فيا لشقاء الزمن، أبحث عمن أتحدث معه، فلا أجد سوى نفسي، أقلب الأحلام وأعيد ترتيبها، أحمل في حقيبتي كماً هائلاً من المتاع الذي ليس لي، وفِي نفس الوقت أحمل على عاتقي أحلاما وآمالا، بعضها لم ندركه ذهب ولم يعد مرة ثانية، والآخر ضيعناه بتقصير أو بسبب الظروف، والثالث ما زلنا نطارده ونسعى لتحقيقه، ولنا في الحياة أمل أن ندرك شيئا جميلا.


لقد أخبرتها قبيل الفجر بقليل: أن القلوب الصادقة إذا أخلصت اجتمعت ولو بعد حين، أن الأحلام التي نخلص في السعي لها ستحقق لا محالة، سواء أكان حبا أو عملا، دراسة أو تجارة، سفراً أو زواجاً ، كل ما يخلص فيه الإنسان سيكون حقيقة ولو بعد عقود من الزمن.

في هذه اللحظات التي أكتب فيها، تجلس على المقاعد المجاورة امرأة عجوز ربما تجاوزت الستين أو أقل، تجلس بمفردها على مقاعد الانتظار، أخذت أسأل نفسي عنها، لماذا تجلس لوحدها، تتصفح وجوهنا، وتتأمل فينا كأننا أولادها، تراقب تحركاتنا ترمقنا بعينها، ترى أين رفيق دربها؟ كيف سامحه قلبه أن يدعها تسافر لوحدها؟.. وكأنه ما علم أن الوحدة ضرب من العذاب. لكن ما يدريك أنه رحل وتركها إلى بلد آخر، يسعى لأجل لقمة العيش، أو يكمل مشوار حياته.

ويجيب خاطر سوء آخر قائلاً: لقد توفي رفيق حياتها قبل أشهر فغدت بلا رفيق ولا حبيب، أخذت أواسيها وأقول كم يصطبر الإنسان على الحياة بعد رحيل رفيقه عنها. أيصبر شهرا أم عاما أم عقدا.

فهل يا ترى لولا الانتحار حرام، لقتلت نفسها والتحقت به فتجاوره في الحياة وتحت الأرض، بل ربما تسلي نفسها بأولادها الذين تركهم لها؟ ما أشقى هذه الحياة حين يطول بِنَا الفراق عن أحبابنا، أولئك الذين طوتهم الأرض تحت ترابها، هنا أدركتُ حجم النار المتوهجة التي تخرج على هيئة كلمات، في دواوين الشعراء وكتب الأدباء وكلام البلغاء، في حديثهم عن الوداع والفراق، ستدرك أن الحياة أبسط مما تتصور، والذي يجعل الحياة عزيزة ذات أهمية: هو قرب الإنسان ممن يحب..

لقد رحلت العجوز تجر أذيال الخيبة، حاملة حقيبتها متجهة صوب الطائرة وكلي أمل أن تكون تكهناتي وخاطري السيئ وهماً أو ضرباً من الخيال. ولعل ثمة حبيباً ينتظرها في الضفة الأخرى، فتشرق لها شمس الحياة من جديد، فتعود العجوز على مشارف الستين، شابة على أعتاب العشرين، فتعانقه عناق لقاء لا فراق بعده إلى القبر.

نسهب كثيراً في الحديث عن ملامح البشر وملامح وجوههم ولكننا ننسى أن الموعد بعد ساعة ونصف لإقلاع الطائرة، كم هو متعب الانتظار، في كل مكان عليك أن تنتظر، حتى في الموت هناك انتظار، فنحن لا نموت معاً بل نموت بالتدريج، وهكذا دواليك.

أتابع الطائرات وأرى حركة المطار منتظراً، وأقول لنفسي: لو كان الانتظار رجلاً لقتلته، كم مرة انتظرت في حياتي، بل أكاد أجزم أن حياتي كلها انتظارات ومحطات من الانتظار، لكني وبعد مدة انتظار طويلة أو قصيرة أصل إلى ما أطمح إليه، رغم أنه يستبد بي ويجعلني قلقاً مهموماً، هماً يأخذ حيّزاً في القلب، ولا يبدو على الملامح، إنها الفوضى الداخلية، فوضى القلوب، ما بين أحلام ننتظرها أو نسعى لها..

هنا أخبرني عابر سبيل: إننا سنصل ذات يومٍ إلى ما نريد، لكننا سنصل متعبين فننام من التعب ولا نرقص من الفرح، ثم أجهش بالبكاء قائلاً: إن الانتظار ضرب من العذاب.