من مفارقات الحياة

من مفارقات الحياة

02 اغسطس 2020
+ الخط -

*اتصلت بعد غياب طويل، مع صديق طفولة يقيم في إسطنبول، كنت أذكّره بالأيام الخوالي التي سبق أن جمعتنا يوماً على مقاعد الدراسة، وكنت حينها في الصف الثالث الابتدائي، على وجه التحقيق، وكان أستاذنا -رحمه الله- من المتمكّنين في اللغة العربية وآدابها، وكان يحاول، في أيامنا الدراسية الأولى، أن يكثّف من توجيهاته لنا نحو الطريق السليم، رغبة منه في تعليمنا، وتركنا للأخطاء الإملائية والنحوية، وإن كان بقدر بسيط، بحسب المرحلة الدراسية التي ندرس فيها، ونحضر لمستقبل دراسي ينتظرنا.

هذه الأخطاء تحتاج إلى متابعة مستفيضة، فما كان من معلمنا "الشرس" إلا أن يجرّب قدراتنا -نحن تلاميذ المرحلة الابتدائية- في طرق فن الكتابة الإبداعية، فطلب مني، من بين رفاقي التلاميذ الصغار كتابة بضعة أسطر عن فصل الربيع، وما مدى الحاجة إليه، وماذا يعني بالنسبة لنا كأطفال.. وبعد أن أنهيت ما طلب مني، وخلال فترة قصيرة جداً، وكتابة ذلك بخطي الجميل رغم صغر سني، قمت من مقعدي المدرسي وحملت دفتري، وتوجهت إلى حيث يقف، فقرأت  أمام التلاميذ ما كتبت. دُهش المعلم، وقال: أنا لا أصدق أنَّ هذه الكلمات التي تلقيها علينا من كتابة يدك!

قلت له: يا  أستاذ "اطلب واتمنّى"، فما كان من المعلم إلا أن غافلني وأخرج يده اليمنى من مخبئه وضربني على وجهي، فوقعت على الأرض، ظناً منه أنّني كنت أستخف وأستهزئ به،  فما كان منه إلا أن سارع نحوي لاسترضائي، وتهدئتي، ومسح الدماء النازفة من فمي، وراح يشكرني أمام التلاميذ على ما تناولته في موضوع التعبير القصير، وصوغي لبعض الجمل بفن عال المستوى على الرغم من أنني ما زلت تلميذاً يافعاً، وطلب مني عدم ذكر ما حدث للأهل خوفاً على مكانته وسمعته، وتحوّله إلى محكمة مسلكية.

في اليوم التالي، وبعد أن نقلت ما جرى لي للأهل، أصرّ والدي على الحضور معي إلى إدارة المدرسة ولقاء المعلم.

الحب يبقى ثابتاً حيث هو، وكذلك الزمن، فإنّه يدور حول نفسه.. أما الذي يمضي، فهو قطار العمر وحده، والعمر محطّات. ما أتعس واحدنا إذا ما فاتته (المركبة) الأخيرة من القطـار..

حضر المعلم "الشرس" إلى غرفة المدير خائفاً من حضور الوالد والشكوى التي سيقدمها بحقه، كما كان يظن، التي ستكون لها نتائجها السلبية بالنسبة له، وستؤدي إلى اتخاذ عقوبة مسلكية بحقه، إلا أن الوالد شكر المعلم على ما فعله، بل طلب منه في المرّة القادمة أن "يدعس" بقدمه على رأسي، في حال مخالفتي تعليماته وأوامره، بدلاً من أن يكون إلى جانبي ويدافع عني، ويوبّخ المعلم على فعلته التي لا تنمّ عن تصرفات معلم صف، وإنما كان يبدو لنا في طلته، نحن تلاميذ تلك المرحلة، "كوحش كاسر"، فإذا به  كـ (فرخ عصفور)، و(القطة تاكل عشاه).. كان ضعيفاً لم يعد قادراً على الدفاع عن نفسه، فاستسلم تماماً، ووقف عاجزاً عن الرد أمام مدير المدرسة وبحضور والدي!

وبدلاً من أن يهتم بالتلاميذ، ويجلّهم ويرعاهم، ويوفّر لهم سبل الراحة، وتعليمهم بالصورة الحسنة المعمول بها مثل بقية المعلمين، كان فظاً غليظ القلب في حواره معنا، نحن التلاميذ الصغار، وتصرفاته التي كانت تنمّ عن معلم جاهل بامتياز!

*كدت أختنق وأنا أوجّه حديثي إلى زوجتي "المصون" التي أختلف معها في كثير من القضايا المنزلية بصورة مستمرة.. وهذه المرّة، مع ما تبقى من وجبات الإفطار الصباحي التي تقوم بتحضيرها ابنتي الشابة، وبعد الانتهاء مما تبقى منها تقوم برمي الزوائد في كيس الزبالة على الرغم من أنها ما تزال في حالة جيدة، وصالحة للاستهلاك، إلّا أنها تدّعي أن الجُبنة، بصورة خاصة، بعد بقائها أكثر من يوم مكشوفة في الثلاجة، تكون قد فقدت قيمتها الغذائية، ومضارها تكون أكثر من نفعها.

استسلمت لردها الذي لم أستسيغه، بل إنّني أكدت لها أنه يمكن الاستفادة منها في إفطار صباح اليوم التالي، وأنا أتقبلها، كما هي بصدر رحب، وكنت دائماً أحذّرها من رمي ما تبقى من هذا النوع من الجبنة التركية التي أفضلها عن بقية الأنواع الأخرى، ولا سيما أنّها طرية وخفيفة الظل على المعدة، وتخلو من الدسم المعروف عن الجبنة العربية، ما يجعلني أستبعد تناولها، رغم أنها غنية بالدسم التي أجلبها إلى بيتي بصورة دائمة، إلّا أنني أفضل النوع الأول من أقراص الجبنة المعمول بطريقة تختلف تماماً عن غيرها،  لجهة سهولة هضمها ومذاقها الطيب. فما كان من زوجتي، وبدون قصد منها،  إلا أن رمت ما بقي منها، وهذا ما يزيد من خلافي معها، وباستمرار.  وفي إحدى المرات طلبت منها أن تضيف إلى أطباق الإفطار المتنوعة قطعتين إضافيتين من الجبنة التركية، وفوجئت بقولها: لم يبق منها أي شيء! فقد رميتُ ما بقي منها أمس في كيس الزبالة!

فقلت لها: إنّها المرة العاشرة التي أطلب منك عدم التفريط بها، وإبقاءها كما هي، فأنا من عشّاقها ومن المحبين لها، فأرجوك عدم المساس بها في المرة القادمة، وعدم رميها في كيس الزبالة. فإنّي أرى في ذلك شرخاً كبيراً وتحدياً لي..!

اتركي لي هذا النوع من الجبنة، سأتولى أمرها بنفسي في الحفاظ عليها في الثلاجة، وإن كان استهلاكها، كما تؤكدين، فيه ضرر كبير لي، فسأكون راضياً عنها مهما كانت الفترة التي تركت فيها مكشوفة في الثلاجة، فهذا يرضيني، وإن كنت أراكِ مصرّة على الخلاص منها، مع شكري لك على حرصك الذي لا أجدُ أنّه يروق لي!

*صعدت إلى قمّة الجبل، وأطللتُ على جمهرة الناس، فإذا هم من فوق في حجم أسراب النمل.. يدبّون على الأرض. وأمس، راقبت نملة، راحت تُجاهد حبّة قمح، أخذت تجرّها واختزانها في (بيت المؤونة) إذا ما داهمها الشتاء، وبدت لعيني أنّها في عنادها وإصرارها أضخم من .. الجبل!

*قرأت أنَّ الحب يجعل الزمن يمضي، وأن الزمن يجعل الحبّ يمضي. وفي التجربة، هناك نقيضان -تعقيباً مني على هذه المقولة-، هي أن الحب يبقى ثابتاً حيث هو، وكذلك الزمن، فإنّه يدور حول نفسه.. أما الذي يمضي، فهو قطار العمر وحده، والعمر محطّات. ما أتعس واحدنا إذا ما فاتته (المركبة) الأخيرة من القطـار..

*تأمل في هذه النتيجة الطبيعية، وتبسّم أو تألم: الفتاة التي تُحبّها تملكها، والفتاة التي تتزوجها تملكك! مبروك...!

*لم أعرف ماذا يعني المثل القائل (باب النجّار مخلوع) إلّا عندما زرت بالأمس قريبة لنا زوجها دكتور مشهور في عالم الأطباء. كان ابنها مريضاً يُعاني، وسألتني قريبتنا إذا كنت أعرف (طبيباً) يُعالج ابنها. فلما استغربت وأنا أتساءل: أين أبوه.. قالت: مشغول مع المرضى.

*في رأيي المتواضع أن الحب مرض خطير مدمّر. أما الشفاء منه، فمزيد من ..الحب!

*إذا كان الحيوان متوحشاً، فإن الإنسان ـ أحياناً ـ أكثر وحشية. الحيوان يكتفي في يومه بوجبة واحدة يسد جوعه، أما الإنسان فلا بد له من وجبات خمس.

*أعرف صديقاً (صياداً) ربّى على يده عصفوراً جميلاً في قفص، وذات يوم جاع، ولم يكن في (ثلاجته) ما يأكله. وبدون أن يدري، امتدت يده بالسكين إلى نحر العصفور الجميل..

*ساسة العالم عقلاء أغرقوا الدنيا في بحر من القتل والدمار والجنون.. ماذا لو أن المجانين حكموا هذا العالم..ألن يكون أكثر هدوءاً ومحبةً ورحمة.

*ما أبدع ريشة أمين نخلة في هذه الصورة النثرية من "مفكرته الريفية": تسأل الزهرة الشمس: كيف أستطيع أن أتعَبّدك.. فتجيبها: بنقاوتك وصمتك.

وما أبدع ما كتبه الناقد الراحل رجاء النقاش -طيّب الله ثراه-  في رحيل الفنان نجيب سرور: (في حياتنا الثقافية العربية ظاهرة مؤلمة بل كريهة، هي كثرة البكاء على الموتى، بينما تجفّ دموعنا تماماً أمام الأحياء وأحزانهم. حتى لو كانت الآلام والأحزان كبيرة وواضحة وظاهرة أمام أقل العيون قدرة على الإبصار).

*ظلّ يحارب المرأة سنوات عمره ويعتبر نفسه عدواً لدوداً لها.. ويوم شعر بالتعب وأراد أن يرتاح، تزوج..

*عاش عمره يحلم أن يكون غنياً، وأن يمتلك ثروة طائلة، ويوم تأتّى له ذاك راح يبحث عن طرق إنفاق المال.

*الفلسفة في جملة واحدة: الموت ليس مشكلة، الحياة هي المشكلة!

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.