من لماذا يكرهوننا إلى لماذا لا يصدقوننا؟

من لماذا يكرهوننا إلى لماذا لا يصدقوننا؟

29 ابريل 2020

تلاميذ صينيون بشنغهاي في مدرستهم بعد استئناف التدريس (27/4/2020/Getty)

+ الخط -
يعمّم المسؤولون الصينيون هذه الأيام سؤالهم المتذاكي: لماذا لا يصدّق العالم روايتنا عن فيروس كورونا؟ لماذا لا يصدقون ما نخبرهم إياه عن النشأة الطبيعية لـ"كوفيد 19" نتيجة وجود حيوانات برية لم يكن يجدر بها أن تتخالط في مكان واحد من سوق ووهان؟ لماذا يطرح علماء ورجال استخبارات وإعلام احتمال أن يكون الميكروب اللعين تسرّب بالخطأ من مختبر للأدوية كان يحاول تركيب لقاح أو علاج لمرض نقص المناعة المكتسبة؟ لمَ التشكيك بشفافيتنا في التعامل مع الوباء وبأعداد الوفيات والإصابات التي نقدمها؟ 
وهذه الـ"لماذا لا يصدقوننا؟" تذكّر فوراً بتساؤل وديع آخر سار العالم على هديه طوال سنوات ما بعد "11 سبتمبر" 2001، بحثاً عن جواب مستحيل: لماذا يكرهوننا؟ كان السؤال الأثير لجورج بوش الابن موجّهاً إلى "العالم الثالث" عموماً، والمسلمين وتيار عريض من جماعة "الأميركو - فوبيا" المتوجّسين أبداً من الشر الأميركي، وفي جعبتهم أجوبة جاهزة بغض النظر عن موضوع النقاش، تستحضر أوتوماتيكياً مقتلة السكان الأصليين للقارة وصولاً إلى تجسيد هذا البلد كل ما هو شر في هذا العالم. ظل الرؤساء الأميركيون ونخب ذاك البلد يطرحون السؤال ويفتكرون فيه بنقاشاتهم ومراكز دراساتهم ويبحثون عنه في جثث ضحايا حروبهم، إلى أن تطوّع دونالد ترامب لتوفير الجهد والوقت على الجميع، أميركيين ومعادين لأميركا، فأظهر للعالم، بالسلوك اليومي، من دون أدبيات وتنظير وبلورة أفكار، لماذا يكره هذه الـ"أميركا" كسلطة ونظام طيفٌ واسع من أبناء وبنات آدم. هكذا خبا السؤال الأميركي من دون أن يختفي، لتُعاد صياغته اليوم في قالب صيني على شاكلة "لماذا لا يصدقوننا"؟
يعتقد حكّام بكين أن تاريخاً من المكوث في قلب "العالم الثالث" المستغَل اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، يزوّدهم برصيد ما من المصداقية. اعتقاد غريب فعلاً، نابع من غيبيات ومن ثقافة ريفية تبسيطية، توحي مثلاً بأن الفقير لا بد أن يكون طيباً حتماً، تماماً مثلما أن إبقاء النظام السياسي الصيني محكوماً بجهاز هائل اسمه الحزب الشيوعي الصيني، يعني أن الصين فعلاً دولة شيوعية، هذا على أساس أن الشيوعية، كنظام وسلطة نعرف تكلفة تطبيقاتهما السياسية على حريات البشر وحقوقهم الشخصية والجماعية، مدعاة فخر يُسأل عنه الملايين من ضحايا الثورة الثقافية. أما أن النظام الصيني هو حكم متسلّط استعار أسوأ ما في الرأسمالية وأسوأ ما في الشيوعية وما بينهما، فذاك ما لا يرغب العقل الصيني الحاكم ولا المتحمسون لـ"النموذج الصيني" في مناقشته طويلاً.
الكذب ليس محصوراً طبعاً بأنظمة غير ديمقراطية أو قل غير ليبرالية سياسياً. لكن ما هو خاص بمثل هذه الأنظمة، والصين نموذجها، هو أن لا صحافة حرة فيه ولا معارضة سياسية ولا حرية تعبير ولا شفافية ولا قدرة وصول إلى المعلومات من مصدرها لكي تسائل وتفضح وتكشف وتقدم وجهاً آخر للحقيقة النسبية. وكيف تريد الصين ومريدوها أن يصدّق العالم رواية نظام لا يزال ينفي ما يرتكبه بحق الإيغور المسلمين من اضطهاد وقتل وتشغيل بالسخرة وجرائم ترانسفير من مناطقهم؟ كيف تريد الصين ومريدوها أن يصدّق العالم رواية نظام اعتقل طبيباً لأنه حذّر باكراً جداً من ظهور الفيروس الجديد؟ نظام لاحق كل الصحافيين الذين كتبوا عن كورونا لأنه كان المطلوب أن يموت الناس بصمت؟ نظام لم يخبر منظمة الصحة العالمية إلا في 20 يناير/ كانون الثاني بأن الفيروس ينتقل من إنسان إلى إنسان؟ نظام أخفى معلومات فسرّع بذلك انتشار الوباء بسرعة قياسية. نظام اخترع تطبيقات وتقنيات تستطيع حجب أي معلومة "سلبية" أو خبر "غير إيجابي" عن حواسيب الصينيين وهواتفهم ومواقعهم الإلكترونية.
كرّست السلطة الصينية بسلوكها تاريخياً قاعدة التشكيك في كل رواية وكل موقف وكل حدث. ذاك هو بالتحديد أب نظرية المؤامرة وأمها التي تولّد أبناء وبنات بالملايين من بطن واحد اسمه القمع وهندسة حياة البشر مثلما تهندس الآلات من دون نقد وتشكيك وحق تمرّد. هذا هو النموذج الذي يحلم به جماعة لماذا لا يصدقوننا؟
أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري