من علم الاجتماع الخلدوني

من علم الاجتماع الخلدوني

01 اغسطس 2014
+ الخط -


بانكبابه الدؤوب على الاشتغال على تاريخ تونس ما قبل الاستعمار، يتقدم المؤرخ التونسي الهادي التيميومي في مشروعه نحو الكشف عن "المنطق الذي يحرّك الأحداث التاريخية" فوق هذه الرقعة من الأرض، ما يتجلى في عمله المنشور بالفرنسية "جينيالوجيا تأخر تاريخي". وهو ينطلق من حيث وضع كارل ماركس إصبعه في منتصف القرن التاسع عشر، أوروبياً، حيث اشتغل على "السرّ العميق الكامن في كل البناء الاجتماعي، ذلك النمط الاقتصادي الذي يفرز جزء من العمل غير مدفوع الأجر، والمنزوع من المنتجين المباشرين". هذا السر، بالنسبة للمغرب العربي حسب وجهة نظر التيمومي، هو نظام العمل المخامسي، وهو العقد الذي يربط الخماس بمالك الأرض، وقد مثل أهم مؤسسة اقتصادية في كامل بلاد المغرب في القرن التاسع عشر وما قبله.

ينبش الهادي التيمومي أعمق في طبقات التاريخ، ليقنعنا بأن لدى هذه البلاد من العناصر الموضوعية ما يجعل ما حصل فيها معقول الوقوع. وبالعودة ثلاثة قرون، يغترف التيمومي من معين لا ينضب من الأسئلة مثل: "لماذا عرف المغرب بالذات الانتشار الكبير للمؤرخين؟"، "لماذا أصبحت الكتابة عن الجنس في تلك العصور ما يشبه الموضة في تونس؟". أما السؤال الأكثر جرأة وخطورة: "هل كان ممكناً أن يخترع ابن خلدون علم الاجتماع؟" يجيب التيمومي بالنفي، لأن ابن خلدون عجز عن رؤية النظام الاقتصادي الذي يحرّك تاريخ المنطقة.

يعود عجز ابن خلدون إلى خصائص في هذا النظام المخامسي، فقد كان نظاماً يعمل مثل نظام "اليد الخفية" في النظام الرأسمالي، أي له تلك الصبغة الشفافة التي تبعده عن أعين المؤرخ المتفحص. من هذا المنطلق، فإن عجز ابن خلدون هو عجز أي مؤرخ مهما كان حجم عبقريته. لكن، كيف تحققت لنظام العمل المخامسي شفافيته؟

منذ صعوده، تسربل هذا النظام بغطاء ديني، تمثل أساساً في منظومة حيل فقهية، أو كما أطلق عليه التيمومي تسمية "حلف الأمير والولي الصالح"، كما أنه نظام يقدّم نفسه فرصةً لمن لا يملك أي رأسمال، يستأجر الفلاح من المالك الأدوات والأرض، على أن يتحصّل على خمس قيمة المحصول، غير أن الخمس لا يكفي غالباً لتسديد مستحقات الإيجار، وبالتالي، تتكرر العملية سنة أخرى، وهكذا دواليك.

إذن، ظل هذا النظام يتمتع بحجب النخب سلبياته وجوانبه الاستغلالية، لأن هذه النخب، ببساطة، كانت المستفيد الرئيسي منه، وبالتالي، لم تجد فيه مأزقاً محفزاً للتفكير، وبفعل التراكم تحوّل نظام العمل المخامسي إلى قدر أو قناعة مترسّخة لدى العامة، بأنه صيغة من صيغ الأجر، وليس من صيغ الاستغلال والعبودية. وحين بدأت تظهر أعراض التململ، أسعف بغطاء قانوني، تمثل في تشريعات خير الدين في أواسط القرن التاسع عشر، ولم يطو صفحته إلا خطط الاستعمار الزراعية التي رأت فيه نظاماً غير قابلاً للإلحاق بالمركزية الرأسمالية.

يكرّس التيمومي الجزء الأخير من عمله لتبيان عدم مطابقة نظريات مطروحة، لتفسير تاريخ المغرب العربي، للواقع التاريخي، مثل نظرية الإنتاج القبلي للمصري سمير أمين، أو نمط الإنتاج الآسيوي للفرنسي إيف لاكوست. فهل ستجد نظرية التيمومي طريقها إلى إثبات وجودها، وتقدم للمهتم بتاريخ المنطقة المفاتيح الضرورية لقراءة أكثر عمقاً؟

شوقي بن حسن - نزهة الغروب - رمضان 2023
شوقي بن حسن
صحافي تونسي، مساعد سكرتير تحرير في موقع "العربي الجديد". كاتب متخصّص في الشأن الثقافي.