من عظاتِ تجربةِ الإسلاميين في السودان

من عظاتِ تجربةِ الإسلاميين في السودان

12 مايو 2019
+ الخط -
من المهم جدًا ألا يُنظر إلى سقوط نظام الرئيس عمر البشير في السودان بمعزلٍ عن طروحات الإسلام السياسي، وبناه الفكرية القاعدية، فهذه البُنى لم تتغير تغيُّرًا جوهريًا عما كانت عليه منذ نحو ثمانين عامًا. وهناك استثناءات، من أمثلتها مراجعات راشد الغنوشي، الأخيرة، في تونس، والتي نحت إلى فصل السياسي عن الدعوي. أثبتت تجربة الإسلاميين في الحكم في السودان، وقد امتدت ثلاثين عامًا، أن فكر الجماعة لم يحدث قطيعةً فارقةً مع خطاب حسن البنا وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي، وغيرهم من الآباء المؤسسين لهذا التيار، والذي يجعل تجربة الإسلاميين في السودان مدعاةً للبحث الجدّي المدقق، مقارنةً بغيرها من الحركات الإسلامية، أنها وجدت فرصةً في الحكم استمرت ثلاثين عامًا، أوصلت فيها الدولة السودانية إلى حالةٍ من الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، نادر الشبيه. بل ارتكبت الحركة الإسلامية السودانية في السودان، في فترة حكمها الطويلة هذه، كبيرة الكبائر، وهي تقسيم القطر السوداني إلى قطرين. وما من شك في أن الطبيعة الأممية للحركة، والاستخفاف بالشأن القطري، سوَّغا لها فقدان الجنوب.
أدى الخطاب الديني الجهادي الملتهب، وإنكار تركيبة القطر الثقافية والاجتماعية، بالغة التنوع، والإصرار على عدم مخاطبة تظلمات أهل الهامش السوداني، إلى انفصال الجنوب. بل أغرى انفصال الجنوب حركاتٍ سودانيةً مسلَّحةً أخرى، لكي تسير في الطريق نفسه. ولا يعود هذا الفشل الكبير، حصريًا، إلى استبداد الرئيس البشير ورعونته وفساده، وإنما يعود، في الأساس، إلى خيار الانقلاب العسكري على النظام الديمقراطي الذي اختاره مرشد الحركة الإسلامية السودانية، حسن الترابي، وهو خيارٌ يعود، لدى التحليل النهائي، إلى أساسيات فكر الجماعة، وطبيعته الفوقية، الاستبدادية.
على الرغم من أن تجربة حكم الإسلاميين في مصر، بحكم قصرها، لا تصلح دليلاً لإثبات فشل الإسلاميين في إدارة الدولة، إلا أنها ليس لديها ما يعصمها، من حيث الأساس المفهومي، من أن تسير في الوجهة نفسها التي سارت فيها تجربة رصفائهم في السودان، إن قُدِّر لهم أن 
يستمروا في الحكم طويلا، فبالإضافة إلى اشتراك الحركتين في الجذر المفهومي المؤسِّس، فإن الحركة الإسلامية السودانية، بخاصة، ذات جذرٍ مصري، بحكم ارتباط البلدين. وقد تلقى سودانيون كثيرون تعليمهم في مصر، خصوصا الرعيل الذي تعلَّم هناك قُبيْل منتصف القرن العشرين. الشاهد أن الفكر الإخواني لم يُحدث مراجعاتٍ جوهريةً في مصر، كما في السودان. ويعود أصل العلة إلى الاستمرار في استبطان نظرية "الحاكمية لله" التي بها يتقمص الإسلاميون الذين ينشدون إنشاء "دولةٍ إسلامية" سلطة المقدس المطلقة، بناءً على تفسيرٍ للنص المقدس يخصهم هم، وحدهم، يجري فرضه قهريًا على الجميع.
الفرق بين نظامي الحكم الديمقراطي والفاشي السلطوي يعود إلى الارتكاز على واحدٍ من مفهومين للسلطة. الأول أن السلطة هي للشعب، أولاً وأخيرًا، يتداولها سلميًا عن طريق صندوق الاقتراع، ويسير بها، عبر الزمن، في الوجهة التي ترتضيها أغلبيته. ويرتكز هذا المفهوم، أيضًا، على نسبية المعرفة، ونسبية القيم، وعلى مفهوم أن القوانين تتطور، وتخضع باستمرار لمراجعاتٍ متتاليةٍ، تجعلها أكثر تحقيقًا للحرية وللمساواة وللعدالة الاجتماعية. المفهوم الثاني هو: السلطة هي سلطة الغيب؛ أو قل هي سلطة المقدس. وبهذا الوصف، هي تنبع من خارج الوعي البشري، ومن خارج تراكمات التجربة البشرية. وينبني على ذلك أن التشريعات السماوية عابرة للأزمنة، ولا تخضع للفكر، أو للبنية التاريخية للمكان والزمان المُعيَّنَين، أو السياق الحضاري. هذا المفهوم الذي يقصي دور العقل، والتجربة البشرية، هو ما تستبطنه تيارات الإسلام السياسي، وإن اضطرت أحيانًا إلى إظهار غيره.
لقد كان ما سمي "قانون النظام العام" من أكبر أخطاء الحركة الإسلامية السودانية في التعاطي مع المجتمع السوداني المتنوع، بالغ الحيوية، النزَّاع، بحكم تكوينه التاريخي، للحرية. لقد حاول إسلاميو السودان، على مدى الثلاثين سنة التي مارسوا فيها الحكم، فرض منظومة قيمية اجتماعية مستوردةٍ من سياقات أخرى، ففرضوا مقاييس متزمتة لزي المرأة، ومنحوا صلاحياتٍ فضفاضةً لشرطة النظام العام، ما عرّض النساء لمضايقاتٍ كثيرة في الشارع العام، وفي مختلف المرافق. وبما أن كثيرين ممن أُسند لهم تطبيق هذا القانون غير مقيدين بأطرٍ قانونيةٍ محدّدةٍ، فقد تعرّضت النساء السودانيات للابتزاز المالي والأخلاقي. كما أن عقوبة المخالفات في هذا القانون كانت عقوبة مهينة، إذ جرى جلد النساء علنًا بتهمة خرق قانون النظام. ومما وسع الخرق بين السلطة والوجدان الجمعي السوداني أن العنف بالمرأة أمرٌ مستشنعٌ جدًا في أكثرية الثقافات السودانية؛ إذ يُعدُّ حِطَّةً وقلةَ مروءة. مارست شرطة النظام العام ما كانت تمارسه جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السلفية السعودية، وهذا ما يفسّر هذه المشاركة اللافتة للنساء في هذه الثورة.
أكبر علل المفاهيم التي كانت، ولا تزال، تؤطر مسلك الإسلاميين في السودان في التعاطي مع
 قضايا الحكم، ما أثبتته عمليًا تجربتهم، هي أنهم حوّلوا وظيفة الدولة التي ينبغي أن تنحصر في إدارة شؤون الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتنحصر، إلى حد كبيرٍ جدًا، في فرض مفهومٍ متزمت للأخلاق مفروضٍ بالسيف والسوط. لقد مارسوا مراقبة مسلك الأفراد، واقتحام خلواتهم، بحجة ما سمّوها "تزكية المجتمع"، أكثر مما انشغلوا بترقية الحياة السودانية. هذا في حين أن التصوّف مسيطرٌ في السودان، ويتسم السودانيون عمومًا بمحافظةٍ معتدلة. أما الإعلام الذي ينبغي أن يعمل على ترقية المجتمع، ودفع جهود التنمية، فقد حوَّلوه إلى منابر للوعظ الديني. انصرف إسلاميو السودان عن تأدية وظائف الدولة الأساسية إلى فرض نمطهم السلوكي على الجميع، فكانت النتيجة فشلاً على كل الأصعدة. وانتهت التجربة إلى حكمٍ مطلقٍ لفرد، وإلى نهبٍ نهمٍ للموارد حوَّل السودان إلى دولة كليبتوقراطية، يمكن أن يُضرب بها المثل، فبما سمّوه "الاستعلاء بالإيمان"، وما سمّوه، "التمكين"، حوَّلوا الدولة من دولةٍ للشعب السوداني لتصبح دولةً مملوكةً، حصريًا، لتنظيم الإسلاميين. وقد مثَّل ذلك واحدًا من أكبرِ أمثلةِ اختطافِ الدولة، بواسطة جماعةٍ محدودةِ العدد، كثيرة العدة والثروة، فأصبحت هناك دولتان: واحدة للحكام ومؤيديهم، وهي دولةٌ فاحشة الغنى، تعيش في كرةٍ بلورية معزولة عن محيطها، ودولةٌ أخرى للشعب، بالغة الفقر، قليلة الحيلة.
أثبتت تجربة الإسلام السياسي في السودان أن مفهومي "الاستعلاء بالإيمان و"التمكين" يقودان إلى صور من الاستبداد، واعتمادٍ على القبضة الأمنية والبطش، توشك أن تلحق بالفاشية. وقد وضح ذلك في ممارسة القتل الجماعي في الجنوب ودارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، إلا أن الحراك السلمي الضخم أخيرا الذي لفت نظر العالم، إضافة إلى الانتشار الواسع للهواتف الذكية، أوضح ما لم يكن واضحًا بما يكفي، من الطبيعة القمعية الحقيقية لنظام الإسلاميين في السودان. لقد أظهرت وسائط التواصل الاجتماعي، على الرغم من محاولة الحكومة السيطرة عليها، فظاعة جهاز أمن الإسلاميين في السودان ووحشيته، فقد رأى العالم المسلحين الملثمين الذين يستغلون سياراتٍ بلا لوحاتٍ، يمارسون، بلا تردّد، إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين في الشوارع. ورآهم، أيضًا، وهم يُلهبون ظهور المتظاهرين بالسياط، بصورة تبلغ درجة الحقد والتشفي. بل رأوهم يقتحمون المنازل وينكلون بساكنيها، ولا يفرّقون في هذا بين رجلٍ وامرأة.
للتيار الإسلامي جمهورٌ كبير في الدول الإسلامية؛ العربية منها وغير العربية. وهذا طبيعي في الأوضاع التي تعيشها هذه المجتمعات التي لم تثب أقدامها، بعد، في أرض الحداثة بالقدر 
الكافي. ما عكسته التجربة السودانية أن للتيارات الإسلامية قدرة على الحشد والتعبئة الدينية العاطفية باسم الدين، ومن ثم الوصول إلى كرسي السلطة، ولكن ليس لها قدرة على ممارسة الحكم الرشيد. ويعود ذلك إلى العلة المفهومية الجوهرية، "الحاكمية". لقد أعادت تجربة الإسلاميين الأوضاع في السودان إلى حالةٍ أسوأ من سابقتها، إضافةً إلى التسبب في تقسيم السودان إلى قطرين. وعليه ربما أمكن القول إن التيارات الإسلامية شعبوية، وخطرها على فرص التنوير وكفالة الحريات، والانفتاح العقلي والتحديث، كبيرٌ للغاية، إنْ هي استمرت على حالها هذا. وبما أن للتيارات الإسلامية وجودا مقدَّرا وسط الجماهير، فإن من خطل الرأي محاولة استئصالها، أو إقصائها. ولكن، لكي يكون لها مستقبل سياسي، على نخب الحركات الإسلامية، والدول الداعمة لها، إجراء مراجعاتٍ جدِّيةٍ لبناها المفهومية القاعدية.