من سيحكم تونس في المرحلة المقبلة؟

من سيحكم تونس في المرحلة المقبلة؟

11 مايو 2019
+ الخط -
عندما تمت في تونس صياغة القانون الانتخابي سنة 2011، حرص الذين وضعوه على جعله حاجزا يمنع أي حزب، مهما كان حجم حضوره الشعبي، من الفوز وحده بغالبية المقاعد تسمح له أن يحكم وحده، فشروط اللعبة الانتخابية تم ضبطها على النحو الذي يجعل المقاعد تتوزع بنسب متفاوتة، بما يسمح لغالبية المرشحين الذين نالوا الحد الأدنى من الأصوات من الولوج إلى مبنى البرلمان.
ربما كانت الفكرة حينها جذّابة، باعتبار أنها شكلت مدخلاً أساسيا لكتابة دستورٍ، لا يمكن لأي طرف إيديولوجي، مهما كان حجمه، أن يستأثر بكتابته، أو أن يفرض قراءته المجتمعية بقوة حضوره البرلماني، بما يمنع باقي القوى السياسية من التأثير، غير أن هذا المبدأ الانتخابي الذي يسمح بتوزيع الأصوات، ويمنع تركزها في يد جهة نافذة، ومثلما حافظ على التوازن السياسي في المرحلة الانتقالية، فقد تحوّل إلى عبء حقيقي في الانتخابات اللاحقة، إذ أصبح من الصعب إيجاد حكوماتٍ متجانسة ومتوازنة. إثر انتخابات 2014، وعلى الرغم مما سُمي حينها بالتصويت المجدي، حين توجهت القوى السياسية المتحالفة إلى منح حزب نداء تونس غالبية أصواتها، الأمر الذي مكّنه من الاستئثار بالرئاسات الثلاث، إلا أنه لم يكن قادرا على تشكيل الحكومة وحده، الأمر الذي دفعه إلى البحث عن تحالفاتٍ، لينتهي في حضن خصمه السياسي الذي خاض الانتخابات تحت شعار إطاحته من الحكم، وأعني به حزب (حركة) النهضة، ثم تفاقم الأمر لينتهي "نداء تونس" إلى تشكيلات سياسية صغيرة، تتنازع النفوذ والبقاء، وتتقاتل من أجل بقايا ميراث سلطوي، ظلوا يحلمون به منذ 2012، ولكنهم فشلوا في الحفاظ عليه، عندما نالوه سنة 
2014.
في أفق الانتخابات المقبلة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، من المتوقع أن تعجز القوى الحزبية جميعا عن تحقيق الأدنى الضروري من المقاعد لإدارة الحكم، وتشكيل الحكومة المقبلة بمفردها، حتى وإن أعلنت عن سعيها إلى بلوغ هذا الهدف، فالقانون الانتخابي، مضافاً إليه المشهد الحزبي المُفتت، يمنعان أي قوة سياسية من تحقيق أغلبية مطلقة، تجعلها في غنى عن التحالفات. فأحزاب نداء تونس بأسمائها المختلفة (مشروع تونس وتحيا تونس ونداء تونس بجناحيه) ستتنازع القاعدة الجماهيرية نفسها، ولن تنال أكثر مما ناله "نداء تونس" موحدا، ولم يتمكّن حينها من الحكم منفردا، فما بالك وهو يخوض المعركة الانتخابية اليوم مشتتا؟ أما اليسار وجبهته، فإن الملامح العامة تشي بتراجع قاعدته الناخبة، وهو، في كل الأحوال، لن يتجاوز المقاعد الخمسة عشر التي حصل عليها سابقا، فيما سيتم تسجيل حضور مقاعد متفرقة للمستقلين والمرشحين التابعين لأحزاب صغرى، فيما تظل حركة النهضة القوة الأكثر تماسكا، من دون أن يعني هذا نيلها ثقة غالبية الناخبين، فمن الصعب اليوم الحديث عن حزبٍ سياسيٍّ قادر على اجتذاب الكتلة الأكبر من القوى الناخبة، وهو ما يعني مزيدا من الأزمات في تشكيل الحكومة المقبلة، وما يرافقها من نزاعاتٍ بشأن توزيع المناصب، وإعادة تدوير السلطة بما يرضي غالبية الفرقاء السياسيين.
على الرغم من محاولة وضع قانونٍ يضمن عتبة انتخابية، كحد أدنى لصعود المرشحين
 السياسيين، إلا أن القوى السياسية جميعا تتحسب لفكرة حصول قوة سياسية على نسبةٍ أكبر من المقاعد، الأمر الذي يمنع مرور هذا القانون في البرلمان التونسي، على الأقل بالصورة التي تجعل الانتخابات تفرز قوى سياسية، تتحمل بمفردها إدارة الشأن العام، فالبلاد اليوم تدفع ثمن خيارات قانونية مرتبطة بتشريعاتٍ تم ضبطها في لحظة تاريخية ما، ولم تعد ملائمة للمرحلة الحالية، وهو ما سينشئ أزمة حكم فعلية، في ظل نظام برلماني متشظٍّ، بما يذكّر بالأزمات التي كانت تمر بها الحكومات الإيطالية، أو العراقية، مع الفرق أن النظام العراقي يقوم على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، أما في تونس، فإن قانون أكبر البقايا حوّل الانتخابات إلى مصدر لعدم الاستقرار، عبر تصعيد ممثلين لأغلب وجوه الطيف السياسي التي يصعب أن تتحالف، بقدر ما يحلو لها أن تتنازع وتتصارع، ولهذا يمكن القول إنه من السهل توقع صعود ممثلين لأحزاب شتى، ولكن سيكون من الصعب معرفة من سيحكم البلاد بعد الانتخابات المقبلة، وعلى أي أساس، وبأي تحالفاتٍ سيدخل المرحلة المقبلة.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.