من ذاكرة الشيوعيين الأوائل في قرية أردنية

من ذاكرة الشيوعيين الأوائل في قرية أردنية

12 يناير 2018

(هاني حوراني)

+ الخط -
قد تكون المراجعات العربية بشأن الذكرى المئوية للثورة البلشفية 1917، وانتشار الأفكار الشيوعية، حدثت في أكثر من سياق، لمعاينة المدّ الشيوعي في البلاد العربية، ووصول الشيوعيين إلى الحكم أو مشاركتهم في الثورات، أو أثرهم الذي تحقق في المجتمعات. فكيف تعاملت معهم السلطات المحلية، وكيف واجهتهم؟
منذ ترجمة البيان الشيوعي عربياً، على يد خالد بكداش (1912 - 1995)، وهو في السجن عام 1932، أخذت الأفكار الشيوعية تلقى رواجاً كبيراً، ولم تخلُ بدايات نشاطها من مواجهات مع السلطة، استمرت حتى وقت قريب في بعض الدول. وتأسس الحزب الشيوعي الأردني عام 1951م، ونشط أيضاً الحزب الوطني الاشتراكي في عمّان، ثم لاحقاً في الأطراف، حيث لقيت أفكاره ترحيباً كبيراً، ونجح الحزب الشيوعي في انتخابات عام 1956 النيابية بمقعدين، يعقوب زيادين عن الكرك، وفائق ورّاد عن رام الله. وشكل سليمان النابلسي الحكومة  الحزبية الوحيدة ممثلا للمعارضة والحزب الوطني الاشتراكي الذي حصل على 11 مقعداً نيابياً.
التصقت بالشيوعيين، في النصف الأول من عقد الخمسينيات، عدة صفات من الناس، مثل "شيوعي" و"شوعي" و"ملحد" و"علماني"، ودعم هذه التوصيفات موقف السلطة الرافض للمعارضة الذي ساهم بتشويه قادتها، وأظهرت تلك التوصيفات انعدام الدقة في التوصيف والوعي، منها التوسيمات الشعبية، وقد أطلقها الناس البسطاء على منتسبي الحزب. لكن السيرة الأولى لانتشار الأفكار الشيوعية في الأرياف الأردنية ظلت من دون توثيق، في حين أن سير الشيوعيين الأوائل ومذكّراتهم وجدت طريقها إلى النشر.
تُحيلنا الكتابة عن مذكرات الشيوعيين الأوائل في الأردن إلى سيرة يعقوب زيادين (1922 -
2015)، الحكيم كما عرف، والأمين العام والقائد لحزب الشغيلة الشيوعي الأردني. ونشرت مذكراته "البدايات.. أربعون عاماً من مسيرة الحركة الوطنية الأردنية" عام 1981، وهي ذات قيمة وجديرة بإعادة النشر، فهل الدولة الأردنية في ظل جهود مكتبة الأسرة ونشاطها تسمح وتتسامح مع تاريخها، فتعيد نشر هذه المذكرات. هذا اختبار حقيقي للإصلاح والديمقراطية. ويحيلنا التذكّر إلى حديث لاحق عن فؤاد نصار الذي كان الأمين الأول للحزب الشيوعي الأردني (1951 - 1977). وثمة روايات عديدة تشكلت، وسير وثّقت المرحلة، وأظهرت كيفية تعامل الدولة الأردنية مع الأفكار الشيوعية، والمخاوف التي كان يَحسب لها نظام الحكم حساباً.
وهناك مذكرات عبد العزيز العطي (1925) "رحلة العمر.. من شاطئ غزة إلى صحراء الجفر"، وهي مهمة أيضاً، لكن الحفر في ذاكرة السجون التي جمعت الشيوعيين (المحطة والجفر)، على الرغم من أهميته القصوى من حيث كونها وقائع ووصفاً للحياة داخل السجن، وكذلك حيث الخلافات مع الرفيق الحكيم يعقوب زيادين، وخصوصاً بعد نكسة 1967، إلا أن هذا الحفر ضروري لتدوين موقف الدولة الأردنية من المدّ الشيوعي، وهي التي طبعت كتباً بعنوان "هذه هي الشيوعية"، ردّاً على فؤاد نصار، وهو مسجون في سجن الجفر، حيث كان يعقد المحاضرات التثقيفية. ومن سبل المكافحة الرسمية، كان الضغط على أسر الشيوعيين، إذ تنشر صحافة العام 1953، وفقاً للموقع الإلكتروني، زمانكم، أنّ السلطات الأردنية قامت بترحيل عائلة عبد العزيز العطي (أو نفيها)، من مخيم عين السلطان في أريحا إلى الكرك، لإجبار نجلها عبد العزيز على تسليم نفسه والتبرؤ من الشيوعية. وسادت لاحقاً في الستينيات فكرة الضغط على المعتقلين في سجني الجفر والمحطة، لنشر براءاتهم من الأحزاب، كي يُفرج عنهم.
قد يفلح ما نشر بتكوين صورة عامة عن الشيوعيين في السجون والمدن الأردنية. ولكن ماذا عن ذاكرة القرى والناس العاديين التي هي على قدر كبير من الأهمية؟ ففي القرى، دخلت الشيوعية كالنار في الهشيم، مطلع الخمسينيات، وتزامن ذلك مع ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، وما تبعها من ميول نحو الاتحاد السوفييتي، فأحدثت تلك الحقبة جاذبية كبيرة لليسار والاتحاد السوفييتي. وللناس ذاكرة مهمة مع تلك الحقبة، ففي قرية الثنية (قرب الكرك) التي لقبت بموسكو الحمراء، جرّاء النشاط الواضح للشيوعيين فيها، كما هي المدينة التي كان يسود فيها الفكر الشيوعي خصوصاً، واليساري عموماً بخطه القومي، وفيها مرجعيات من قادة من الحزب الشيوعي، مثل يعقوب زيادين وعيسى مدانات. وحتى وقت قريب، حين هدموا الدور القديمة في قرية الثنية، وجدوا بعض دفاتر الحزب خلف الخشب الذي اتّخذ في بناء السقوف.
ويقال إنّ الشيوعية في قريتي انتشرت بفعل نشاط الفلسطينيين الذين جاؤوا إلى الكرك بعد النكبة. آنذاك صار المعلمون يجلسون مع كبار السن والشباب في القرى، وعاشوا معهم. يقول أحد شهود الحقبة من قريتي "بشّرونا بالصحة والتعليم المجاني والطرق وملفات الخدمات"، وهناك من صاروا شيوعيين في السبعين من أعمارهم، من دون أن يعوا أنها حزب يريد السلطة. آنذاك أيقنَ أهل القرية أن خطاب الرفاق سيحل لهم كل مشكلاتهم.
يقول الحاج عبد الحليم عبده المبيضين، في لقاء خاص، وهو يوثق ما يتحدث به، واصفاً دَور
 معلمي المدارس من الضفة الغربية، الذين سكنوا القرية بعد النكبة 1948 بعامين: "كان المدير محمود الكرابلية، ومعه الأستاذ محمد يعقوب الجمل، وهما من الضفة الغربية، وكان الأخير مُسنّاً، وكل يوم يأتي طالب ويحضر الحمار ويُركبه عليه ليوصله من البيت إلى المدرسة. أما كرابلية فكان يجلس العصر عند حيط دار موسى بن سالم، وهو مستأجر عند الحج ورّاد بن إسماعيل المبيضين، ومع الأستاذ فوزي العسعس، وكان شيوعياً أيضاً، وكان هؤلاء يسهرون مع الناس، ويتحدثون لهم عن الشيوعية، وعن الروس ورفضهم الصهيونية. ومن هنا كان التعاطف معهم. وكان محمد إبراهيم البستنجي أبو الوليد من أقدم الشيوعيين في الكرك، ولقّب أبو هشهش، لأن الناس كانوا يقولوا عن الشيوعي مهشهش" (لعلها مهسهس). والشهادة هنا مهمة في النظرة العامة البسيطة للشيوعي.
وتتسع الذاكرة للبوح في حقبة ما بعد إسقاط حكومة سليمان النابلسي في إبريل/ نيسان 1957، فيقول أبو علاء: سنة 1958 الظهر، (من دون تحديد يوم). كانت والدتي نفساء، ولمّا صارت أحداث العراق (ثورة تموز) وأحداث الزرقاء (اشتباه مراسلات عراقية مع ضباط في الجيش العربي) تدخل حابس المجالي في اليوم نفسه، وصارت تحرّكات عسكرية مريبة. لذا جرى اعتقال مجموعة قيادات عسكرية، وكنت في الصف الأول أو الثاني ابتدائي، وعمي سالم كان طالعاً من الدار، وجاءت سيارتان مسلحتان حضرتا من قوات البادية، وكانوا قالبين شُمغهم، وعليها، رشاش ويسألون عن محمود الكرابلية وسالم الضعيف وفوزي العسعس، وكان هؤلاء هاربين، بوصفهما شيوعيين يعملان ضد الحكم ويحضران للانقلاب. ونفى جدك وراد معرفته بهم، على الرغم من أنهما يسكنان عنده. ومع ذلك ضربه العسكر وبهدلوه، وفزع له والدي الحاج عبده". وتدعم الوثائق البريطانية هذه الروايات، فتصف صيف 1958 بأنه كان مضطرباً وساخناً، خصوصاً بعد قطع العلاقات مع العراق.
لم يكن تصاعد المدّ الشيوعي متروكاً من دون انتباه الحكم. لاحقاً سيجري التفكير بغلق المركز الثقافي الروسي عام 1974، غير أنّ القرى استمرت في إرسال أبنائها إلى التعلم عند الشيوعيين، وقرية مليح في مادبا من القرى التي تستحق أن يجمع أبناؤها ذاكرتها الشيوعية.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.