من دولة الوحدة إلى وحدة الدولة

من دولة الوحدة إلى وحدة الدولة

29 يونيو 2014

مصري يهتف لفلسطين أمام جامعة الدول العربية (نوفمبر/2012/فرانس برس)

+ الخط -


استطاع تنظيم داعش، في ساعات قليلة، أن يزيل جزءاً مهماً من الحدود الفاصلة بين سورية والعراق. وهو، بذلك، يقيم دليلاً على أن الحدود الفاصلة بين الدول العربية مصطنعة. يثير هذا العمل مشاعر متناقضة، تتوزع على ضدين: الإصرار على المضي في إزالة الحدود بين الدول العربية، على أمل قيام دولة الوحدة، بقطع النظر عن محتواها الإيديولوجي، وطبيعة الأنظمة الحاكمة فيها، والتمسك بتلك الحدود والاستعداد للاستشهاد من أجل الدولة "القطرية".
تفصح الثورات العربية على حقيقة تفيد أن الشباب الثائر، وجزءاً كبيراً من النخب الحاكمة في النظم التي صعدت، منذ ثلاث سنوات، إلى السلطة، على الرغم من قصر التجارب وتعثرها، هم "أبناء الدول القطرية''، أما من تبقى منهم فهم من المخضرمين ممن عاشوا فترة الاحتلال وبناء الدولة الوطنية. في حين أن من أدرك أواخر الدول الامبراطورية قلة قليلة، لا تستحضر إلا ذكريات مشتتة عن العثمانيين والانجليز والروس، وغيرهم ممن تباهوا آنذاك باتساع ممالكهم، أكثر من اتساع نور الشمس في مداهم.
من هذه الدولة التي سطرتها اتفاقية "سايكس بيكو"، استمد هؤلاء هوياتهم السياسية، فمنحتهم الجنسية، وتغذى وجدانهم السياسي من التفاصيل الدقيقة للمعاش السياسي.  مواد الانتماء إلى ذلك الكيان تبدأ من المدرسة، حين نكتشف، وأسنان الحليب لم نبدلها بعد، أن لنا خريطة وعلماً ونشيداً وطنياً نردده ونتحمس إليه، وستحضر دماء زكية، سالت فداء لتلك الدولة بالذات. في الحالة المشرقية، كانت النخب السياسية، بما فيها الحاكمة، تنظر إلى الحدود نظرة المؤامرة، ولا ترى فيها إلا تقطيعاً لوحدة سياسية وعاطفية، هي، في الأصل، حالات متخيلة. فالدولة في الفكر السياسي للعرب، فضلاً عن تاريخهم، كانت نحيفة، ولم تمتلك من الصلابة ما يجعلها حقيقة سوسيولوجية راسخة. من التشكيلات القبلية على شاكلة الكونفدراليات العشائرية وإمارات الغزو، أو الدعوة، توزعت الكيانات السياسية التي لم ترتبط برعاياها إلا ارتباط البيعة والجباية أو الجزية.
على خلاف هذا القلق من الدولة، في الحالة المشرقية، كانت للدولة، في الحالة المغاربية، من التراث السياسي، ما يمتد على أكثر من خمسة قرون في حالات عديدة. ذلك ما جعل مفكراً، مثل عبد الله العروي، يتصدى لهذه المعضلة، في كتابه الشهير "مفهوم الدولة"، والذي، للأسف، لم يجد صدى ما وجد كتابه الأسبق "الأيدولوجيا العربية المعاصرة"، والذي كان قاسياً قسوة هزيمة 1967. وكان العروي يرى في دولة الوحدة متخيلاً سياسياً، يضايق الدولة الوطنية، وينخر مشروعيتها الأخلاقية، وينهك مردوديتها السياسية، ويحول دون تحولها إطاراً للانتماء السياسي.
على خلاف ذلك، راهن نديم البيطار بالذات، المتبرم من "الدولة القطرية"، تكتيكياً، على الدولة القاعدة/الإقليم التي تنطلق منها تجارب الوحدة. كان الرجل، بقطع النظر عن الهوى الأيديولوجي المنجذب إليه، يبدو أكثر المنظرين امتلاءً. تنبسط أمام ناظريه أمثلة كثيرة على الدولة الأمة، تتوزع على قطبي بسمارك ألمانيا وغاريبالدي إيطاليا وما بينهما من التجارب الناجحة والأخرى المريرة. تستدعي تلك النماذج، بشكل أو بآخر، النخب المدنية والعسكرية في بناء تلك الدولة. لا شك أن مصر وسورية والعراق، وحتى ليبيا، كانت تتصارع على افتكاك تلك الوظيفة/ الرسالة. كانت كل دولة من تلك الدول، أو على الأصح كل نظام من تلك الأنظمة، يدّعي أنه القاعدة المهيأة لأن تنطلق منها دولة الوحدة، وأنه الأقدر على تجسيم ذلك النموذج.
كانت التشكيلات الحزبية والمجموعات السرية الصغيرة تدفع باتجاه ترشيح حالة من تلك الحالات. وعلى الرغم من فشل التجارب الوحدوية، لأسباب يطول شرحها، لم تشف تلك النخب من داء الانشداد إلى دولة الوحدة. كانت التصورات في بنائها سطحية وغير واقعية. لا يبتعد النموذج على شاكلة انتظار القيامات الصغيرة: حصان جامح يركبه على شاكلة دبابة زعيمٍ، وراءه جماهير الأمة الزاحفة على حدود سايكس بيكو. تتهاوى الحدود تحت غضب تلك الجماهير والتحامها بالقائد، ليبدأ عصر دولة الوحدة.


خارج هذا "الانتظار الغيبي" لدولة الوحدة، تولت الدولة العربية، حتى أكثرها اصطناعاً وتكلفاً، تربية وتنشئة رعاياها (مواطنياً تجاوزاً)، ومنحتهم من الخدمات ما قدرت عليه، وحفظت أمنهم في حدود ما تصورت ومارست عليهم شتى أنواع التسلط، حتى أذعن إليها الجميع، طوعاً أو كرهاً. يشعر حاليا التونسي والبحريني والعراقي والسوري والجزائري بأن دولته جزء من كيانه السياسي والوجداني، بقطع النظر عن موقفه من الأنظمة التي تحكمه، حتى التي ملكت الدولة ملكاً. إنه على غير استعداد لأن يضحّي بدولته، من أجل إلحاقه بكياناتٍ هلاميةٍ، لا تمنحه أرضاً عليها، تقع أقدامه على اتساع السماوات التي تعد بها. 
 مع ما حل بالعراق وصعود الجماعات الدينية المسلحة، عاد العداء مجدداً إلى الدولة القطرية، تحت وهم الخلافة الإسلامية هذه المرة، يتزامن ذلك مع بدائل جديدة، أشدها تبلوراً الشرق الأوسط الجديد الذي يصر على إعادة رسم حدود جديدة، لن تترك الخريطة القديمة للدول القطرية، كما هي.
ومع اندلاع الموجة الأولى من الثورات العربية، عادت تلك الخيارات مجدداً. ولكن، في سياقات مختلفة، وتحت عناوين مغايرة هذه المرة. فباستثناء الحالة التونسية، إلى حد ما، حيث استطاعت العملية السياسية، على ارتباكها، أن تحافظ على الدولة مجالاً للبناء الديمقراطي، لصلابة التراث الدولوي، ومتانة البناء الوطني، فإن جل الحالات الأخرى لم تستطع الحفاظ على الدولة، حتى مجرد وعاء للانتماء الوطني، وتفككت الدولة، إما إلى بنى ما دونها، حيث تشد الجماعات المتنازعة إلى التحت: ملل وأقوام، عشائر ونحل، أو إلى هوامات كلية، خلافات وإمارات تتوسع وتتمدد، بحجم ما يراق من دم.
تستدعي اللحظة الراهنة، في اعتقادي، التمسك بالدولة الوطنية، على قاعدة المواطنة، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية لكل المواطنين. إن مشروعاً مواطنياً من شأنه أن يجعل من الدولة الوطنية كياناً صلباً. علمتنا التجارب الأخيرة أن قوة الأنظمة لا تفيد، بالضرورة، صلابة الدول، وإن حالات قليلة من الدول الهشة، إثر الحرب العالمية الثانية، استطاعت أن تصمد، بما ابتكرت من أشكال مثمرة من المشاركة السياسية. أما الدول التي قامت عليها أنظمة صلبة، فإنها فشلت في تعميق أساليب المشاركة السياسية للمواطنين، وذلك ما به فرطت في ذاتها: إما دول فاشلة، أو متحللة، لا محالة.
يبتكر الخيال السياسي الحالي في مواطن عديدة أشكالاً جديدة من الوحدة: عملة ودساتير ودفاع. من دون أن تستهدف، بالضرورة، الدول الوطنية. أما فكرة دولة الوحدة، فإنها، في السياق الحالي، قد تكون، من حيث لا تشعر، مسماراً يدق في نعش الدول ذاتها. وحدة الدولة الحالية على عيوبها تبدو، في لحظتنا الراهنة، ولربما المقبلة، مطلباً سياسياً ملحاً لنخبنا، تفادياً لكارثة تجزئة المجزأ، وتفتيت المفتت. مع ذلك، علينا أن نوسع من خيالنا الوحدوي، لتدبر أشكال أخرى من العمل الجماعي، لا تشطب "الدولة القطرية" بالضرورة.

 

 

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.