من دعشنا فليس منا

28 يونيو 2014
+ الخط -

أثارت ذهولي هذا الصباح رؤى قحطانية وعدنانية، في أثناء تتبعي الزمن العربي عبر الفضائيات، وهو يستعيد، في العراق وسورية وليبيا واليمن، حروباً على شاكلة البسوس والفجار وداحس والغبراء وحليمة وذي قار.. وبدلاً مما يثير الحفيظة من مَشاهد دبابات وشاحنات ورباعيات الهامر، لم أكن أبصر غير أشهر خيول العرب، التي ظلت تؤثث الذاكرة، منذ زمن الثقة العمياء في الشعر الجاهلي. كنت أرى العصا لجذيمة الأبرش، داحس قيس بن زهير، الأبجر لأبي الفوارس عنترة، النَّحام للسُّليك بن السلكة، والشمطاء لِدُريد بن الصمة؛ وبقية الاصطبل العربي، ومخازن أسلحة الدمار الشامل التي تأتت للعرب في تلك البدايات.

ها هو الزمن الذي خِلناه بادَ وانتهى، يُلقي إلينا بكل حقيقتنا التي لم يُفلح لا الدين المُوحِّد، ولا قرونُ الحضارة، ولا الحداثة، وما أغرتنا به من رأسمالية واشتراكية وقومية، ولا حتى العولمة، في إخفائها. لم نكن يوماً، لا سنة ولا شيعة، ولا خوارج، ولا معتزلة، ولا أشاعرة. لم نكن لا سلفيين ولا وهابيين، ولا ناصريين ولا بعثيين. إنما هذه نحلٌ شُبهت لنا، ولم تغير شيئا من حقيقتنا التي ظلت، وإن أسلمت، جاهلية الهوى.

نرى حقيقتنا، الآن، عارية من كل مساحيق القرون، لا أحد يفهم هذه الحقيقة ويعشقها سوانا، ومن هنا، تحولت كل الحلول الدولية، النظريات السياسية، والتراكمات الفكرية، إلى تراب بين أيادينا. كأن الشنفرى وعُروة بن الورد يُغِيران لكسب قوت يوم، نِكاية في أثريائهما، فأصبحت قبائل العصر، الراحلة على الدوام، بأعلامها السوداء، صوب الانفجارات، وليس في اتجاه الرعود والكلأ، تُغير لحيازة مصافي البترول العربية، ولا بأس من قطع رؤوسٍ عربية في الطريق، حتى ولو كانت لأبي العلاء المعري والمتنبي وابن الأثير، حتى ترتوي جينات دموية، أدت قسم الموت منذ غابر القرون.

كيف نفسر، الآن، ما يحدث، خارج المعلقات والكعبة الوثنية، وكل ما تعاقب عليها من آلهة، ظننا أن الأنبياء دمروها؟ كيف لا نستعيد زمن هولاكو، وهو يحاصر بغداد (1258م) وهي تُغتصب من رعاع المغول؟  كيف لا نتفهم إلقاء الغزاة ملايينَ الكتب في نهر دجلة؟ ما دام الزمن العربي عصيـّاً إلى هذا الحد، غاصّاً بالنواجذ على جاهليته؛ فأي نفع للمعارف؟ ألم يكن جورج بوش بالقناعة المغولية نفسها، وهو يخرّب متحف بغداد، ويهدر دم التاريخ؟ نعم، الحروب قدر الإنسانية كلها، لكننا رأيناها، في أزمنتنا المعاصرة، حروباً تنتسب إلى عصرها، وتعكس تدافعاً حضارياً من أجل هيمنة النموذج الأرقى، كما ينظر إليه بُناته وحُماته.

لم نر حربا بين "الغولوا والجرمان"، إنما بين الفرنسيين والألمان، أما حروبنا فهي قادمة إلينا من غور التاريخ، بكل السيوف والرماح والدروع، التي خلناها صدئت وتلاشت في الصحراء. تلاشت الدول لتظهر العشائر والإمارات الدموية المبايعة لبعضها بعضاً، وحتى الأسماء استبدلت ليكتمل المشهد.

وقبل هذا كذب رؤساؤنا، وهم ينسبون أنفسهم إلى كل ما راق لهم من معجم الحداثة السياسية، حتى نسبوا أنفسهم إلى الديمقراطية، وحقوق الإنسان والحيوان، وهم يُغنون الرصيد العربي القديم من أسلحة الدمار الشامل، بكل ما استطاعوا من قوة ورباط الخيل، وأطنان البراميل المتفجرة. نبكي لأُسر عربيةٍ هائمةٍ على وجوهها، في مشارق الأرض ومغاربها، ويبكي غيرنا عظاماً في النجف وكربلاء، ويهب للحفاظ عليها نَخِرة، بدل أن يهب للحياة يحفظها للأبدان سُمِّيت بالشيعية أو السّنّية.

نطمئن، مداراةً لأحزاننا فقط، بأننا، في المغرب، أبعد عن هذه المكاره الطائفية والفتن. لكن، تطالعنا الأخبار بأن بيننا من يُدعّش شبابنا، ليقذف بهم في مجاهل الشرق العربي، ليعيدوه إلى زمن ما قبل البعثة النبوية. نطمئن إلى هويتنا التي نسجناها خيطاً خيطاً، بكل مغازل أمهاتنا وجداتنا، الأمازيغيات والعربيات، لنكتشف أن بيننا داعشيين من نوع آخر، يحنون إلى جاهلية أخرى، وإلى معلقات أمازيغية، تَشحذ أسنَّتها، وتُعِد فرسانَها لتكمل ما لم تنجزه أيام العرب.

ها هو الزمن المغربي، لدى بعضهم، يحرض على قتل ملوكه الأمازيغ، بجريرة عدم إلقاء لسان العرب في نهر سبو، وعلى شنق عبد الكريم الخطابي، لأنه لم يدستر الأمازيغية لغة لدولة الريف، ولأنه نادى بمغرب عربي موحد. كما يحرض على إهدار دم المختار السوسي، الهارب في جبال سوس العالمة، بجريرة التعريب. هل هناك واحة للراحة بين الجاهليتين، ومنهما؟ ما أشد حاجتنا في مغربنا، بعيداً عن الشوفينية، إلى الاعتبار بدروس في الخراب الشامل، تُلقى، ميدانياً، غير بعيد عنا، جغرافياً وتاريخياً. ومنتهى القول: من دعشنا فليس منـّا.

6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)