Skip to main content
من دروس الانتخابات البريطانية
علاء بيومي
انتصار جونسون وحزب المحافظين يتصدر الصحف البريطانية (13/12/2019/فرانس برس)
لم يتوقع كثيرون نتيجة الانتخابات البرلمانية البريطانية التي عُقدت في 12 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، وانتهت بفوز كبير لحزب المحافظين، وهزيمة قاسية لحزب العمال، يُعتقد أنها الأكبر منذ عقود. فاز المحافظون بـ 47 مقعدا إضافيا في مجلس العموم البريطاني، ليصل عدد مقاعدهم إلى 365، وهي أغلبية مريحة تمكّنهم من الحكم بشكل منفرد تقريبا خمس سنوات مقبلة، وتمرير ما يحلو لهم من قوانين، بما في ذلك قوانين الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وخسر حزب العمال البريطاني 59 مقعدا، ليتراجع عدد مقاعدهم إلى 203. وعمّق من خسارتهم تركّزها في مناطق صناعية فقيرة في شمال إنكلترا صوّتت لحزب العمال عقودا. كما بات من المحتم استقالة زعيم حزب العمال، جيرمي كوربين، المعروف بمواقفه الاقتصادية المناصرة للفقراء ولإعادة توزيع الثروة داخل بريطانيا، والمعارضة لعسكرة السياسة الخارجية والمناصرة للقضية الفلسطينية.
كيف حدث الزلزال الانتخابي البريطاني؟ وما هي الدروس التي يمكن تعلّمها، خصوصا أن النتيجة الكبيرة ستترك تبعاتها على أوروبا والغرب بمجتمعاته المختلفة، حيث ينظر إلى هذه النتيجة انتصارا جديدا لليمين الشعبوي، وخسارة للقوى اليسارية الأكثر معارضةً للرأسمالية ولعسكرة السياسة الخارجية؟
لعل الدرس الأول هو الدور الحاسم الذي لعبته أفكار الوطنية الشعبوية في انتصار المحافظين، 
فلم يدخل هؤلاء، بقيادة بوريس جونسون، الانتخابات بأفكارٍ تذكر سوى التركيز على الخروج من الاتحاد الأوروبي، والتخلي عن سياسات التقشف، والتوسع قليلا في الإنفاق على الخدمات والمرافق. وهي وعود تفوّق فيها حزب العمال بقيادة كوربن، والذي وعد بتوسّع هائل في الإنفاق من خلال زيادة الضرائب وتأميم بعض شركات المرافق الأساسية. ولكن كوربن وقف موقفا وسطا، رآه بعضهم ضعيفا، بخصوص الخروج من الاتحاد الأوروبي. حيث رفض كوربن موقف المحافظين المطالب بالخروج من الاتحاد الأوروبي بأي ثمن، ولو بدون اتفاق، كما رفض موقف حزب الليبراليين الديمقراطيين الرافض للخروج. في المقابل، رأى أن معارضة الخروج تمثل موقفا غير ديمقراطي، نظرا لمناقضتها نتائج استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكنه واجه ضغوطا قوية من أعضاء حزبه المطالبين بالبقاء. وحلا وسطا، وعد كوربين بإعادة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، وطرح اتفاق الخروج في استفتاء ثانٍ، في حالة فوزه في الانتخابات.
والواضح أن يسارية كوربن ووعوده الاقتصادية وميله القوى لصالح الفقراء لم تستطع إقناع كثيرين من فقراء بريطانيا بالتصويت له، وذلك في هزيمة واضحة لأفكاره اليسارية أمام سياسات الهوية والشعبوية الوطنية التي تبنّاها جونسون، ومن قبله حزبا الاستقلال البريطاني والبريكست. باختصار، استطاعت عقود من الإفقار وسياسات الهوية القائمة على لوم المهاجرين والأجانب والاتحاد الأوروبي على فقر المواطنين الإنكليز المقيمين في المدن الصناعية السابقة، إقناع الناخبين الإنكليز بأن الاستقلال عن الاتحاد الأوروبي والحد من تدفق المهاجرين هو الحل 
الأمثل لمشكلاتهم الاقتصادية، وليس مواجهة قوى الرأسمالية ورفع الضرائب على الأثرياء، كما نادى كوربن.
الدرس الثاني هو حجم الدمار الكبير الذي تعرّضت له القواعد الانتخابية لحزب العمال عقودا من السياسات الرأسمالية والنيوليبرالية. حيث يصعُب لوم كوربن وحده على الهزيمة القاسية التي تعرّض لها حزب العمال، كما تفعل كثير من وسائل الإعلام والقوى السياسية حاليا. فمنذ نهاية السبعينيات، وبريطانيا تتحوّل بسرعة نحو الرأسمالية ثم النيوليبرالية، وما ترتب عليهما من سيطرة لرأس المال وإغلاق للمصانع والمحاجر وهجرة الوظائف الصناعية إلى خارج بريطانيا والدول الغربية. ونتيجة ذلك، خسر عمالٌ كثيرون وظائفهم، وضعفت الاتحادات العمالية التي كانت تمثل العمود الفقري لقواعد حزب العمال الانتخابية والتنظيمية. ترك هذا الضعف مئات آلاف من العمال بلا وظائف، وفريسة لدعاية اليمين السياسية، والتي ركزت على لوم الأجانب والمهاجرين.
الدرس الثالث مسؤولية كوربن وقادة حزب العمال عن الخسارة الفادحة، فالواضح أن الحزب، تحت قيادة كوربن، لم يقرأ المشهد الانتخابي وتوجهات الناخبين البريطانيين جيدا. دخل كوربن الانتخابات بأحد أكثر البرامج الانتخابية راديكالية منذ عقود، حيث طالب بالعودة إلى سياسات اشتراكية، مثل تأميم شركات أساسية، كشركات المياه والطاقة والسكك الحديدية، وبمراجعة السياسة الخارجية البريطانية.
لم يقدّر كوربن جيدا تأثير عقود من السياسات الرأسمالية والنيوليبرالية على توجهات الناخبين. لم يقدّر الضعف الذي طاول قواعد حزب العمال الانتخابية وتفكّكها عبر عقود، ولم يقدّر تأثير سياسات الهوية والتوجهات الوطنية الشعبوية. فبدلا من دخول الانتخابات ببرنامج وسطي يتعامل بواقعية مع التحدّيات السابقة، دخل كوربن الانتخابات ببرنامجٍ راديكالي صعب التنفيذ، يصعب شرحه للناخبين أو قبولهم به، لأنه جاء متأخرا عقودا.
وقع حزب العمال، تحت قيادة كوربن، تحت تأثير نخب يسارية جديدة متحمسة دعمت صعود كوربن بقوة، وانضمت لعضوية حزب العمال بعشرات الآلاف، ودفعت الحزب يسارا. ولكنها للأسف لم تقدّر حجم التحدّي الذي تواجهه، فانشغلت بالأيدولوجيا عن الواقع وتعقيداته، واندفعت باتجاه أقصى اليسار، بدلا من التمسّك قدر الإمكان بالوسط.
الدرس الرابع حاجة النظام الانتخابي البريطاني للإصلاح، فالنظام الحالي القائم على القوائم 
الفردية، ويسمح للمرشح الفائز بأعلى الأصوات من الجولة الأولى، من دون الفوز بأغلبية أصوات الناخبين، يؤدّي إلى إهدار أصوات مئات الآلاف من الناخبين. على سبيل المثال، لم يتغير نصيب حزب المحافظين من إجمالي أصوات الناخبين كثيرا (زاد بنسبة 1.2%) عن انتخابات عام 2017. ومع ذلك، فاز الحزب بـ 47 مقعدا إضافيا. أما حزب الليبراليين الديمقراطيين، فزاد إجمالي الأصوات التي حصل عليها بنسبة 4.2%، لتصل إلى نسبة 11.5% من أصوات الناخبين، ومع ذلك خسرا مقعدا، ليتراجع إجمالي عدد المقاعد التي حصل عليها إلى 11 مقعدا.
وفي مفارقةٍ فجّة أخرى، حصل حزب المحافظين على 365 مقعدا، بفوزه بنسبة 43.6% من إجمالي أصوات الناخبين، في حين حصل حزب الليبراليين الديمقراطيين على ربع الأصوات التي حصل عليها حزب المحافظين تقريبا، ومع ذلك لم يحصل إلا على 11 مقعدا. وهذا يعني أن ملايين الأصوات يتم إهدارها بسبب نظام الانتخابات الحالي، والذي لا يتوقع أن يُقدِم حزب المحافظين على تغييره، ما يعمّق شعورهم بعدم التمثيل.
الدرس الخامس نهاية عهد التقشف وتبنّي مختلف الأحزاب وعودا بمساعدة الطبقات الأكثر فقرا من خلال التوسع في الإنفاق الحكومي. ويحتاج حزب المحافظين إلى التحرّك سريعا لإرضاء أصوات العمال والفقراء الذين صوّتوا له، خصوصا في مدن شمال إنكلترا. ولن يكون الأمر سهلا، بسبب تراجع معدلات نمو الاقتصاد البريطاني، وتبعات سيناريوهات الخروج من الاتحاد الأوروبي المختلفة، وصعوبة العثور على برامج إنفاقٍ تترك تبعات سريعة على حياة المواطنين.
الدرس السادس أن جهود كوربن وقادة حزب العمال خلال السنوات الأخيرة لم تذهب بلا تأثير، حيث ساهمت في تعبئة فئاتٍ واسعةٍ من المثقفين والطلاب والشباب الذين يشعرون الآن بعدم التمثيل، وقد لا يجدون سريعا منفذا للتعبير عن مواقفهم السياسية سوى الشارع والتظاهرات، إذا استمر تهميشهم.
باختصار، لا يجب التقليل من تبعات عقود من هيمنة الرأسمالية والنيوليبرالية على المجتمعات الغربية، حيث ساهمت في تدمير القواعد الانتخابية لليسار، وتركت الفقراء فريسةً لسياسات الهوية والشعبوية الوطنية. ولكن أزماتهما ساهمت في صعود يسار جديد أكثر حماسةً ورغبة في التغيير، يسار يُواجه بنظم وقوى سياسية راسخة يصعب تحدّيها، ما يعرّضه لهزائم قاسية، ويفاقم شعوره بعدم التمثيل، في وقتٍ يحاول فيه اليمين المحافظة على السلطة من خلال التلون سياسيا، والتخلي عن سياسات التقشف إلى حين.