Skip to main content
من جورج جونسون إلى دونالد غلوفر: اجتياز حقول الألم
أمل كعوش
دونالد غلوفر: هذه هي أميركا (Getty)
بعيد عام 1870، أُعتق رجل يدعى جورج واشنطن جونسون من "عبوديته" في الولايات المتحدة الأميركية. عندها، ترك الشاب حياته السابقة في ولاية فيرجينيا ليعيش في نيويورك عاملاً كمؤدّ فنّي في الشوارع، مغنّياً ما حفطته ذاكرته من المغنى الشعبي الذي غالباً ما كان يصحبه بصفير ملحّن. ذلك العمل كان يكسبه قروشاً قليلة فقط، تكفيه قوت يومه، إلى أن اكتشفه عام 1890 صاحب شركة إنتاج، وعرض عليه تسجيل غنائه مقابل عشرين سنتاً في الدقيقتين.

بذلك، صار جورج واشنطن جونسون (1846-1914) أول مغنّ أسود أميركي يسجّل أسطوانة تجارية. رغم ذلك، لم تعش أغنياته لوقت طويل؛ إذ إن ما سجّله جونسون من أغنيات كانت بمثابة مواد لترفيه الرجل الأبيض، ذلك أن مضمونها الذي كان يعدّ طريفاً آنذاك، هو في الواقع عنصري الطابع تجاه أصحاب البشرة الداكنة. أولى الأغنيات التي سجّلها تحمل عنوان "الزنجي الصافر" The Whistling Coon ويقول مطلعها: "لقد رأيت في زماني الكثير من الرجال الطرفاء/ لكن أكثرهم طرافة هو رجل "ملوّن" أسود كأي غراب...".

تمعن كلمات الأغنية في وصف ساخر من هيئة ذلك الرجل: "شفتاه تبدوان كالكبد المشقوق/ أنفه يشبه الحذاء المطاطي/ جمجمته كجمجمة قرد ضخم...". وتصف الأغنية الرجل بالمعتوه الذي لا يتكلّم ولا يعرف شيئاً سوى الصفير، فيقع المستمع على لازمة موسيقية، هي نغمة صفير متواصل، الأمر الذي كان يتقنه جونسون كما كان يتقن الغناء الضاحك في أغنيته "أغنية الضحك"، التي لا تقل نمطية عن أغنية "الزنجي الصافر".

في الأغنيتين هاتين، يظهرالرجل الأسود وكأنما اعتاد النبذ لدرجة أن يتعايش معه بسذاجة، فهو الرجل الذي يواجه جميع أموره الحياتية بالصفير: "يصفر ليل نهار وحتى أنه كان يصفر عند وفاة زوجته/ وذات يوم ضربه أحدهم بحجر كبير على فمه ما جعل وجهه يتورّم كبالون/ ولكن رغم ذلك تابع الزنجي صفيره المعتاد". كذلك الأمر في "أغنية الضحك"، يتكرر مشهد الرجل الأسود الذي يواجه سخرية الناس منه بالضحك: "سمعت أناسا يقولون: ها قد أتى الرجل الأسود الذي يمشي ببطء شديد وإذا ما فتح فاه رأينا حفرة مرعبة/ ومن ثم ضحكتُ وضحكتُ".

تصير اللازمة الموسيقية هنا عبارة عن سلسلة من الضحك المغنّى ويتجاوز التهكّم في الأغنية حيّز مظهر الرجل؛ فيصل إلى حد التجريح بسلالته وتاريخ قومه: "سمعتهم يقولون: كانت والدته أميرة ووالده أميرا وكان يمكن أن يكون غاليا على قلبيهما لولا تقاعسه كما كان يمكن أن يكون ملك أفريقيا/ وعندما سمعتهم يقولون ذلك ضحكتُ وضحكتُ". رغم إشكاليّتها، نالت أغنيات جورج واشنطن جونسون إقبالا، فهو كان معتمدا لدى شركتي "فونوغراف نيويورك" و"فونوغراف نيوجيرسي"، ومن بعدها لدى الشركة الأم "فونوغراف أميركا الشمالية"، وغيرها من شركات الإنتاج في ذلك الوقت.

من المهم الإشارة إلى أن جميع المنتجين في ذلك الوقت كانوا من البيض، ومعايير اختيار الأغنيات كانت محددة ضمن ما يعتبر ناجحاً وفق معايير الجمهور في زمن حاضن للعنصرية، ما يجعل جورج واشنطن جونسون أول مغنّ أسود ضمن المينستريم (mainstream) أو التيار الموسيقي السائد. وفي رواية أخرى هو أول مغنّ أسود في مجال الموسيقى البيضاء إن جاز التعبير.

ففي عام 1909، مع نشأة "الوكالة الوطنية لتقدّم السود"، وبدء الحركة المطلبية الحقوقية للمواطنين السود في الولايات المتحدة، بدأت أغنيات جونسون تحظى باهتمام أقل، إلى أن تم تغييبها عن الساحة الفنية. فأغنياته المسجّلة تدرج تحت ما يعرف بأغاني الزنوج "coon songs" التي كانت سائدة في الولايات المتحدة وأستراليا في الفترة الممتدة بين أواخر القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين. وهي نمط غنائي كان يقدّم صورة نمطية سلبية عن العرق الأسود لنشأتها ضمن العروض المسرحية الاستعراضية Minstrel؛ حيث كان الممثلون البيض يطلون وجوههم بالأسود للعب أدوار تسخر من الأفراد سود البشرة ضمن الأداء المعروف بالوجه الأسود أو Blackface، والذي يعدّ من التوجّهات العنصرية.

وقد شارك جورج واشنطن جونسون نفسه في عدد من تلك العروض، مقدّما أغانيه الشهيرة، كما سجّلت له مشاركات في عروض مسرح الفودفيل Vaudeville؛ وهي الأعمال المسرحية المؤلفة من عدّة عروض أدائية غير مترابطة القصة يقدّمها فنّانون منوّعون. وعام 2014 في مئوية رحيله، ضُم إرث جورج واشنطن جونسون لسجلّ التسجيلات الوطنية في مكتبة الكونغرس الأميركي من خلال تسجيل "أغنية الضحك" العائدة للعام 1896.

خلال قرن على تجربة جورج واشنطن، دخلت أسماء مغنيّن ومغنيات سود المجال التجاري الأميركي ضمن الموسيقى البيضاء، إنّما بحضور قويّ وجماهيرية عالية جعلا العديد منهم يحصدون جوائز غرامي، كفريق جاكسون فايف، ستيفي وندر، لورين هيل، مايكل جاكسون، بيونسيه، برينس، أم-سي هامر، ويتني هيوستن، وغيرهم.

وفي الوقت نفسه، لا تخلو ساحة مسابقة جوائز غرامي من لوثة العنصرية وتهميش للسود، إن كان من حيث توزيع الجوائز، أو حتى من خلال سقوط أسماء لفنانين سود من لائحة المرشّحين عن فئات كانوا يستحقون التنافس عليها بجدارة. لكن حفل جوائز غرامي للعام 2019 شهد حدثاً تاريخياً على مستوى الأعمال الغنائية السائدة بشكل عام وللفنّانين السود بشكل خاص، حين تمكّن الفنّان دونالد غلوفر (مواليد 1983)؛ المعروف فنيا بـ تشايلديش جامبينو، من حصد جوائز الفئات الأربع كاملة والتي ترشّحت عنها أغنيته "هذه هي أميركا". والفئات الأربع هي جائزة تسجيل العام، جائزة أغنية العام، جائزة أفضل فيديو وجائزة أفضل أداء غنائي/راب، مسجّلا بذلك سابقة تاريخية من خلال "هذه هي أميركا"، كأول أغنية راب تحصل على جائزة أغنية العام في مسابقة جوائز غرامي منذ تأسيسها عام 1957.

تمكّن غلوفر من خلال "هذه هي أميركا" أن يقدّم عملا فنيا سياسيا مبنيا على رؤيته الخاصة في موجز غنائي بصري يعرّي أميركا لتحضر ماثلة بعنصريتها ووحشيتها عموما، وباضطهادها لمواطنيها السود خصوصا، ولا سيما تحت ظل إدارة ترامب. كما تقدّم "هذه هي أميركا" نقدا واضحا للصورة النمطية للسود في الإعلام.

ترتكز "هذه هي أميركا"، كعمل غنائي مصوّر، على عنصري الصدمة والتباين سمعيا وبصريا. يفتتح فيديو الأغنية بعازف غيتار وصوت غناء جماعي يقول: "نحن نريد أن نقيم حفلة وحسب، والحفلة لكم/ نحن نريد المال وحسب، والمال لكم". في تلميح للصورة النمطية السلبية للسود الأميركيين وخاصة الرجال منهم التي يروّج لها إعلاميا على أنهم أفراد يلهثون وراء المال والجنس والمخدرات. وفي الأغنية دلالة ثانية على تلك الصورة النمطية، حين تقدّم جوقة غنائية سوداء أداء يقول: "قالت لي جدتي اجلب مالك أيها الرجل الأسود".

في بداية الفيديو، يبدأ غلوفر الرقص بحركات مبالغ بها ترافقا مع الموسيقى المرحة، ثم فجأة يقوم بإطلاق النار على عازف غيتار لتدخل الأغنية في إيقاع مقبض. وفي موضع آخر من الأغنية، يطلق غلوفر النار على الجوقة الغنائية المذكورة سابقاً مستعيداً حادثة إطلاق النار في كنيسة في ولاية جنوب كارولينا عام 2015 التي ذهب ضحيتها تسعة مصلّين. يردد غلوفر في الأغنية: "هذه هي أميركا، حذار أن يمسكوا بك وأنت ترتكب خطأ/ هذه هي أميركا، انظروا كيف أعيش وكيف تتصرف الشرطة بحماقة"، في إشارة إلى عنصرية الشرطة الأميركية تجاه المواطنين السود.

وبعد كل إطلاق نار في الفيديو، يسلّم غلوفر السلاح لطفل أسود ليحمله بحرص شديد في قماشة حمراء، إشارة إلى أميركا الدموية التي تقدّم أهمية السلاح على مصلحة مواطنيها، وفي لفتة إلى توريث هذه الجنحة للجيل اليافع الأميركي.

في مكان آخر في الأغنية، يقول غلوفر: "هذه هي الغوريلا". ونقف هنا أمام تفسيرين للمفردة التي تحمل احتمالين أولهما guerilla "حرب العصابات" وربطها بموضوع سهولة حيازة السلاح، وثانيهما "Gorilla" في إشارة لتجربة الغوريلا الشهيرة المبنية على مفهوم الانتباه الانتقائي selective attention التي تهدف لتأكيد أن تركيز البشر في أمر محدد دون غيره قد يجعلهم بسهولة يغفلون عن أمور أخرى حيوية. وتترجم تجربة الغوريلا في الفيديو برقص غلوفر على خلفية حوادث عنيفة تنفجر بعد كل جريمة "يرتكبها" لتمرّ بصمت في خلفية الفيديو دون أن تلحظها العين المشغولة بمتابعة الرقص.

يتشارك غلوفر الرقص مع مجموعة شباب بزي مدرسي للدلالة على الجيل الجديد المحاط بكل تلك الفظائع التي تجري من حوله، فيما هو يرقص غير مكترث أو مستخدما الهاتف النقّال لتوثيق الكارثة كما في مشهد آخر من الفيديو. تتطرق هذه المشهدية لمسألة تورية المشاكل في المجتمع الأميركي من عنصرية واسترخاص للدماء خلف ستارة من الترفيه التجاري. هذه الصورة الواقعية المشوّشة تمكن مقاربتها بما كان يعنيه جورج واشنطن جونسون حين يغني عن رجل يتابع الصفير بلامبالاة ويضحك من دون اكتراث أمام مآسيه.

تستحضر "هذه هي أميركا" زمن الرقيق والعنصرية عبر رموز عدة، بداية مع إطلاق غلوفر النار على عازف الغيتار متّخذاً وضعية مستوحاة من الصورة الشهيرة لشخصية جيم كرو Jim Crow السوداء التي كانت معروفة في العروض الغنائية الاستعراضية في زمن العنصرية المباشرة.

كما يختار غلوفر أن يكون عاري الصدر في الفيديو، كأنما يقول إن لون البشرة الأسود يضع أياً كان في مرمى العنصرية. يحمل الفنان الشاب حول عنقه سلسلتين ذهبيتين قد ترمزان لسلاسل العبودية والقيود المفروضة على المواطن الأميركي الأسود اليوم، كما وترمزان لظاهرة الاستهلاكية في المجتمعات الحديثة التي تغمز لها الأغنية من خلال الكلمات "أنا أنيق أرتدي غوتشي"، علما أن العلامة التجارية الشهيرة تلك اتهمت بإطلاق ملابس تحاكي ظاهرة blackface العنصرية.

في الفيديو أيضا ترميز تاريخي آخر، فتصميم البنطال الذي يرتديه غلوفر مستوحى من تصميم بناطيل الجنود التابعين للولايات الكونفدرالية أثناء الحرب الأهلية الأميركية، وهي الولايات التي كانت تشرّع الرقيق وأعلنت انفصالها عن اتحاد الولايات الأميركية آنذاك. الكاميرا في "هذه هي أميركا" لا تتوقف، فتأخذ لقطة واحدة متواصلة كما الحياة متواصلة رغم العنصرية وظاهرة انفلات السلاح الذي يطاول جميع مواطنيها على اختلاف أعراقهم. فخلال الدقائق الثلاثة الأولى للفيديو، التي يتأرجح غلوفر ما بين دور المؤدي الراقص ودور قائد مسلسل الجرائم، تتوقّف الأغنية في فاصل من سبع عشرة ثانية من الصمت تحية للطلاب السبعة عشر الذين سقطوا في بداية العام 2018 بإطلاق نار في إحدى مدارس ولاية فلوريدا على يد طالب أبيض، علما أنه لم يكن هناك مواطن أسود واحد بين الضحايا.

يكسر غلوفر الصمت بإشعال سيجارة، ثم يرقص على سطح سيارة متوقفة في مرأب، فيما نشاهد عازف الغيتار وقد عاد للحياة. يمكن تحميل هذا المشهد دلالات ركود الحياة (توقّف السيارات) مقابل استمرارية إيقاع الروتين اليومي (عزف الغيتار) وكأنما سيبقى متأرجحاً ما بين الموت والحياة. بعد ذلك تدخل الصورة في ظلام دامس، يتوقّف الرقص، ويتحوّل غلوفر في المشهد الأخير إلى رجل أسود يركض بخوف، فيما يطارده مجموعة من الأشخاص. حتى إن دور الأداء يسند لمغنّي راب آخر هو "يونغ ثاغ" Young Thug الذي يختتم الأغنية قائلا: "أنت مجرّد رجل أسود في هذا العالم/ أنت مجرّد كلب ضخم مقيّد في الباحة الخلفية".

يبقى السؤال، هل يكون دونالد غلوفر في "هذه هي أميركا" قد فتح بابا جديدا أمام تحرر المينستريم الفني الأميركي من قيود الصور النمطية للسود والتخفّي وراء الإصبع؟ أم إن جوائز غرامي الأربع التي حصدها العمل كانت مجرّد ترضية ومحاولة لتلميع صورة أميركا العنصرية؟