من تجليات الثورة التونسية

من تجليات الثورة التونسية

09 يناير 2015
+ الخط -

تقتادك الثورة التونسية من يد روحك، وتمضي بك إلى فردوس الطمأنينة، بل ربما إلى النقيض. فأنت، إزاء هذا الفعل الإنساني الجبّار، حائر على غير مستوى، ثمة دم أريق، ولم تكن تملك سوى الحبر، وما من حبر يرقى إلى منصة الدّم. وحتى حين يمور الدّم في جسدك باحثاً عن مخرج، فإنّك، حينئذ، ثائر لا شاعر. وليس معنى هذا أنّ الثورية تنافي الثقافة، أو أنّ الثقافة متعالية على الميدان، ولكن، لابد من تفادي خلط الأوراق، فلا يمكن للممارسة أن تتحوّل إلى حكم قيمة أدبي، مع أنّ الحبرَ عرضة لاختبار دائم. خلصنا من ترف الكتابة للكتابة، وهي ذي الثورة، بوهجها وضرائبها البشرية، تعيد إنتاج السؤال التقليدي عن جدوى الكتابة، وإذا كان السؤال قاسياً أو عصياً على الجواب، فلنبحث عن صيغة ثانية: "هل من عزاء في الكتابة؟".
ويرسلك هذا السؤال إلى مستوى آخر من المشكلة، يتصل، هذه المرّة، بكينونة المثقف المتورّط بوجوده في زمن ملتهب: "هل قدرك أن تلبس هذا اللبوس الماسوشي، مقرّعاً حيّزك الفيزيائي المحدود، بدعوى عدم صعوده إلى لحظة الاشتباك؟".
وحين يدخل المثقف العضوي، مع الاعتذار من غرامشي، على الخط، فإنّك في مستوى ثالث من الحيرة:
كيف أمارس، كمثقف، وكيف أكتب كثائر؟ وفي كلتا الحالتين: ألست (بضم التاء) مثقلاً بأسئلتي الوجودية، أنا المفرد في فضاء محذوف؟
فكيف أتحوّل إلى خليط فعّال في نسيج الجماعة؟
ولك أن تعتبر، في طفرة يأس أو ضجر، أنّ ما سبق دلع لغويّ، وأنّ عليك أن تعود إلى سؤال الأسئلة عن دورك مثقفاً في هذه الملحمة. ساعتها لا مناص من مستوى جديد يدعم حيرتك الأولى، هو أنّ الثورة نشيد الجماعة ومرآتها، لا الفرد إلى نبرة في إيقاعها الجمعي المتكاثر.
بهذا، لن تكون ذاتك إلا بالحد الذي تسمح به الثورة، فهي تهدّد الثقافة بالتنميط.
وحين تنأى عن الامتثال للثقافة السائدة، فمعنى ذلك أنّك اخترت الغربة، أمغترب ومثقف ثوري في آن واحد؟ كيف تلتئم المعادلة؟
حين هبّت عاصفة السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2010، لتخترق الصمت، وتنير درب الحرية أمام شعب ظل يرسف في الأغلال عقدين ونيفاً من الظلم والظلام، في تلك اللحظات الخالدة، تملّكني إحساس باللاجدوى. ماذا يمكن للمرء أن يفعل؟
كيف يمكن أن يكون عملياً، وهو لا يتقن غير الكلمات؟ حتى الكتابة عن حدث جلل، بحجم الثورة التونسية، لا ترقى إلى منصة النضال.
كنت أدوّن جميع ما أرى، مكتفياً بالتفرّج على الدّم التونسي مراقاً، وعلى الجنائز، تسير خبباً في اتجاه المدافن. هو ذا الموت متوحّش قاس فظّ بدائي ساديّ همجيّ عات ضار فاجع. هو ذا القتل على مرأى من الدنيا وحفاة الضمير. الأرض التونسية لم تصَب بقشعريرة ولا بدهشة. إنّها تأكل بنيها. جميع التفاصيل التي اجتذبتني إليها دوّنتها. معي، الآن، من التفاصيل ما يكفي لتأليف كتاب.
كيف يرتقي المرء إلى مستوى ما رأى، كيف يكتبه محاطاً بهالته الأسطورية، من دون أن يقع في نقل الوقائع، أو وصفه وصفاً إخبارياً مسطّحاً يفقره، ويلغي كثافته؟
كيف يكتب جانبه السحري الأسطوريّ المروّع؟
الحياة أقدس من النص، والفعل المقاوم أعظم من أن تحيط به الكلمات، لا سيّما إذا كان الفعل أسطورياً رسولياً على النحو الذي رأيت.
ولكن، لا ينبغي أن تنتهي الحياة إكراماً لشبابنا الذين تسابقوا إلى الموت إعلاء للحياة، وتمجيداً للحياة. أنا على يقين من أنّ الاستبداد سيظلّ يدحرج، غلاته وصانعيه، باتجاه الهاوية، حيث لا شيء غير الموت وصرير الأسنان.
يا تونس الصابرة، نحتاج إلى قليل من صبرك الرباني، فالرّوح محض عذاب. قصر قرطاج ينوح، في السرّ، على "أمجاد" من سكنوه. وطائرة المخلوع تحلّق في الأقاصي في اتجاه المنفى البعيد. والحرية تتمطى في اتجاهنا عبر الدموع. ولنا أن نفرح. لنا أن نهلّل. وطوبى لأمهات الشهداء، لأنهن عند الله يتعزين.
غريب أمر هذا الشعب التونسي، لا يكتفي بالخبز بديلاً عن الحياة والكرامة. مدهش أمر هذا الشعب التونسي الذي ارتقى بقراره إلى منصة الاستشهاد. ومدهش، أيضاً، أمر هذا الشعب الذي اتخذ قرارات مصيرية، يهون دونها الموت.
وإذن؟
هي ذي تونس إذن. زمان تكثّف حتى غدا مكاناً وحكايات، أقاصيص وملاحم، سماء تنفتح في وجه الأرض، أرض تتسامى وتتخفّف من ماديتها حتى تصبح كالأثير. ثم يلتقيان. الأرض والسماء يغدوان واحداً.
والطريق إلى الجمهورية الثانية على مرمى حجر. ومثلها الطريق إلى الحلم العظيم، الحلم الضاري الذي نسمّيه الحرية الخالدة والديموقراطية الخلّاقة.
خطوة باتجاه الطريق المؤدية، خطوة.. خطوتان، ومن حقنا أن نواصل الحلم. ولتحي الحياة.
سلام هي تونس.
 

                                                                                              

 

 

 

avata
avata
محمد المحسن (تونس)
محمد المحسن (تونس)