من أجل فهم عربي مطابِق ل "حرب تمّوز"

من أجل فهم عربي مطابِق ل "حرب تمّوز"

24 يوليو 2016

مبان في بنت جبيل دمرها العدوان الإسرائيلي (31 يوليو/2006/Getty)

+ الخط -
عقدٌ يفصلنا عن انتهاء ما يعرف لبنانيًّا بـ"حرب تمّوز"، وهي حرب شنّها الكيان الصهيوني على حزب الله خصوصاً، ولبنان عموماً، انتهت بحالة "ستاتيكو" عسكرية في الجنوب اللبناني، رست على تضخّم قوّة حزب الله السياسية والأمنيّة داخليًّا، ليتمّ "صرفُها"، منذ ذلك الحين، صوب الداخل العربي بدل الجبهة مع إسرائيل. المفارقة الساخرة أنّ الطفرة "العربية" الهائلة في دور "حزب الله" حدثت منذ العام 2011 فقط، مع بدء الثورتين السوريّة والعراقيّة. وهي أحداثٌ سمحت لحكّام طهران بتدشين العصر الإمبراطوري الإيراني الذي افتتحته الولايات المتحدة الأميركية، أوّلاً وأخيراً، عبر تسويغها كل الوسائل الوحشية، من تسليح المليشيات المذهبيّة إيرانية الولاء وتمويلها لتثخن الجراح في جسد الأمّة العربية. صحيح أنّ إيران كانت، في البداية، تدافع عن مصالحها مقابل إرادة السوريين والعراقيين بالتحرّر من براثن حلفائها. ولكن، لاحقاً، كان التحالف الاميركي معها هو ما قوّاها، وجعل لها من ذلك فرصةً لفتح باب حربها على العرب على مصراعيه. ولم يشذ حزب الله طبعاً عن ذلك عن هذا السياق، وقد كان قبل 2011 حزباً "لبنانيًا"، ولو على الورق فقط، وبحدود ما سمحت به إيران، أصبح اليوم في العام 2016 الوكيل الأوّل المعتمد لإدارة شؤون الإمبراطورية الإيرانية في الوطن العربي والعالم.
إزاء هذا المسار العام لحزب الله، كيف يمكننا أن نحاول إعادة فهم ما حصل في يوليو/ تمّوز 2006؟ لكي نفعل ذلك، يجب أوّلًا أن نتخلّص من السرديّات السطحيّة الخاطئة المنتشرة، والتي تقول إنّ ما حصل لم يكن حربًا حقيقية، بل كان "مسرحيّة"، وإنّ إسرائيل "قامت بتلك الحرب لتقوية حزب الله أكثر"، وهي "لو أرادت لكانت أنهته". بدايةً، الحرب، أيّة حرب، لا يمكن أن تكون "تمثيليّة" (إلا في خيال بعض العرب وبعض إعلامهم). فعلى الرغم من أنّ "الإستابلشمنت" الصهيوني قد يوافق ضمنيّاً على هدن طويل الأمد مع إيران، ويتعاون معها كثيرًا (مثلاً، فضيحة "إيران كونترا" التي اشترت فيها إيران من إسرائيل "الشيطان الأصغر" السلاح خلال حربها مع العراق). لكن، حينها لم يتساهل إطلاقاً مع وجود ما هو ليس أقلّ من جيش إقليمي، مع صواريخ يهدّد عمقها الداخلي، وبشكل استراتيجي. لذلك، حاولت إسرائيل أن تقضي عليه. لكنها ولو لم تستطع ذلك، بالمعنى العسكري الكامل للكلمة، فقد نجحت بتقييده من خلال قرار مجلس الأمن 1701. ما ذكرناه لا ينفي أن حزب الله واجه إسرائيل، لكنه، في الوقت عينه، يقينا من كيل أيّ مديحٍ له إزاء ذلك، فما حدث تمّ تجييره بالكامل لحساب إيران، ومنذ البداية، وليس لحساب قوّة الأمة العربية ومنعتها وخيرها. وسيكون بحثنا الموضوعي، هنا، ناقصاً إذا ما نظرنا إلى لبنان فقط، خلال ذلك الصيف، لكي نفهم "حرب تمّوز". فجرياً على ما كان يقوله الممثّل السوري الراحل نهاد قلعي، في مسلسل تلفزيوني، نردّد أنّه "من أجل أن تعرف ما كان يحصل حينها بين ضاحية بيروت الجنوبيّة وجنوب لبنان في الصيف من العام 2006، عليك أن تَعرفَ ماذا حصل في بغداد خلال صيف ذلك العام".
في ذلك الصيف القائظ في بغداد، كانت المليشيات الشيعية تقوم بتطهير العاصمة من سكانّها
السنّة، بشكل منهجي ووحشيّ. فبينما كان العالم وجزء من العرب يراقب حرب إسرائيل ضد حزب الله، كانت مليشيا "جيش المهدي" التي قام حزب الله بتدريب أعضائها في لبنان، ذلك الصيف نفسه، يستكملون اقتراف المجازر بحقّ الأبرياء في العاصمة ("نيويورك تايمز"، 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2006). في يوم 9 يوليو/ تمّوز مثلًا، أي قبل ثلاثة أيّام من بدء الحرب، اقتحمت مليشيات "جيش المهدي" حيّ الجهاد غرب بغداد ("نيويورك تايمز"، 10يوليو/ تموز 2006) بعد أن أقامت حواجز فيه، وبدأوا فيها بسحب المدنيين بالقوة من منازلهم وسياراتهم وقتلهم في وضح النهار. ولا يمكن لسكّان بغداد كذلك أن ينسوا "أبو دِرْع"، وهو سفّاح من مليشيا "جيش المهدي"، عاد وظهر مجدّداً، في تجّمعاتٍ لمريدي مقتدى الصدر ("لمحاربة داعش" هذه المرّة طبعًا!) (إنترناشيونال بزنس تايمز"، 22 يونيو/ حزيران 2014). كان هذا السفّاح يختطف سكان حيّ الأعظمية، وأكثريته من السنّة، مستعملاً سيارات الإسعاف الحكومية، ليعذّبهم ويثقب أجسادهم بالمثقاب الكهربائي، قبل أن يرميهم جثثًا في حاويات القمامة ("سيدني مورنينغ هيرالد"، 20 ديسمبر/ كانون الأول 2006). كان الأميركيون والإيرانيون يتناوبون، حينها، على محاولة تحويل ما كان ثورةً شاملةً ووطنيّةً ضدّ المحتلّ إلى ديناميكية حرب مذهبيّة سنيّة-شيعيّة، وهما كانا متفاهمين على ذلك بشكلٍ تام. المحطّة الأبرز في ذلك كانت تفجير قبّة مرقد الإمامين العسكريين يوم 22 فبراير/ شباط 2006، في ظروفٍ غامضة، مع دلائل قويّة على ضلوع مليشيات سريّة لوزارة داخلية العراقية فيها، والتي كانت حينها بإمرة الإيراني الأصل، باقر جبر صولاغ الزبيدي، الذي اشتهر بإنشائه السجون السريّة، وعرف "بأبو الدريل"، إذ راجت، في أيّامه، الجثث "المجهولة الهويّة" التي كان يُعثر عليها مثقوبةً. وبحجّة تفجير قبّة المرقد، بدأت المليشيات الشيعية بإبادة عشرات الآلاف من السنّة وتهجيرهم، وأُشعِلَتْ ديناميكية قتل مذهبي متبادل، راح ضحيتها الآمنون في بغداد من السنة والشيعة والمسيحيين. كان "أبطال" ذلك المليشيات الشيعية، كما تنظيم القاعدة في العراق الذي كان يفجّر الآمنين في الأحياء الشيعية من المدينة. بعدها بأشهر، قبض الأميركيون على قائد في "قوات القدس" الإيرانية، يدعى شيرازي، فوجدوا وثائق تثبت أنّ الحرس الثوري الإيراني كان يدعم تنظيم القاعدة بالسلاح، و"يعمل معهم بشكل وثيق" ("نيويورك ذِ صن"، 3 يناير/ كانون الثاني 2007). وهذا هو "تنظيم القاعدة" الإرهابي نفسه الذي قتل من تشكيلات المقاومة العراقية حينها، مثل "كتائب العشرين" و"جيش محمد"، أكثر بكثير مما فعل المحتلّ الأميركي نفسه.
لذلك، ومما سبق، إذا ما وضعنا الأمّة العربيّة كلّها في الميزان في ذلك الصيف من العام 2006، نرى أنّ قتال حزب الله خلال ما سمّيت حرب تمّوز لم يكن، حينها أكثر من مواجهة عسكرية مرحلية ومحليّة، محدودة جغرافيًّا، بين وكيل لمستعمرٍ (إيران) ومستعمر آخر (إسرائيل) كانت تجري في الطرف "الغربي" من دائرة النفوذ الإيرانية على جسد الأمّة، بينما، وفي الوقت نفسه، وفي الطرف "الشرقي" الأقرب من إيران، كان حزب الله وأقرانه يقترفون المجازر المذهبية في العراق، ويطهّرون بغداد من السنّة في سياق محاولة إيران السيطرة المتزايدة على العراق، لتحويله مستعمرة ثيوقراطية، وحديقة خلفيّة تحكمها المليشيات. كانت حرب تمّوز ونتائجها الدعائية اللاحقة تغطية إعلامية هائلة على التحالف الأميركي-الإيراني لتفتيت العراق واستعماره، كما يحدث الآن بعد عشر سنوات، عندما غطى حزب الله تدخّله في سورية، بحجة قتال "التكفيريين وإسرائيل" في حمص وحماة وحلب، ومن بعدها اليمن. ولذلك، لا بدّ، ومن أجل فهمٍ عربي مطابقٍ لحرب تمّوز طوال الثلاثة والثلاثين يوماً التي دامت فيها في لبنان، أن يبدأ هذا أوّلاً من جثث الأطفال والنساء والشباب العراقيين الشهداء المثقوبة المرميّة في حاويات الأعظمية في صيف بغداد 2006.