21 سبتمبر 2024
من "ديمقراطية البنادق" إلى ديمقراطية مُبتَسَرَة
أكّدت حكومة الوفاق الوطني الفلسطينية، برئاسة رامي الحمد الله، التزامها بإنهاء صفحة الانقسام ومعالجة آثاره، وإزالة سلبياته، واتهم الحمد الله حركة حماس بأنها "حكومة ظل"، تضع العراقيل أمام تمكينها من العمل في غزة. ومع أن تلك الحكومة شُكّلت نتيجة اتفاقياتٍ بين حركتي فتح وحماس، رأت الأخيرة في أدائها سوءاً يفوق سوء الحكومات "الانقسامية" السابقة، ووصفتها بالحكومة "الانفصالية" و"الفئوية". أما الانفجار الذي وقع بالقرب من موكب الحمد الله، بعد وصوله إلى قطاع غزة، في مارس/ آذار 2018، فاعتبرته الرئاسة الفلسطينية محاولة اغتيالٍ تتحمل حركة حماس مسؤوليتها.
قرار المحكمة الدستورية الموجّه ضد "حماس"، الذي يسمح بحلّ المجلس التشريعي المعطل منذ عام 2007، ويدعو إلى انتخاباتٍ تشريعية خلال ستة أشهر، مكّن الرئيس محمود عباس من القضاء على احتمال أن يخلفه الرئيس الحالي للمجلس التشريعي، وهو عضو في "حماس"، كما هو منصوص عليه في القانون الأساسي الفلسطيني. حلّ المجلس التشريعي الفلسطيني يعني أنه لم يعد هناك خليفة معين للرئيس، وترك تعيينه لمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة فتح. حرص عباس أيضاً، على إنهاء حكومة الوفاق الوطني برئاسة الحمد الله، فقدمت استقالتها في نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي لصالح حكومة من "فتح" برئاسة محمد اشتية. هذه التطورات الأخيرة في الساحة الفلسطينية، هي في الأساس نتاج الصراع السياسي المستمر بين الرئيس محمود عباس و"حماس".
تمنح الانتخابات للأحزاب والقوى السياسية فرصة للتنافس من أجل خدمة الصالح العام في ظل نظام ديمقراطي، أما في الحالة الفلسطينية فقد أصبحت الانتخابات بوابة واسعة لمزيد من التناحر والإقصاء، وتعزيز حالة الانقسام التي أفرزتها الانتخابات نفسها، في ظل ديمقراطية عرجاء تحت سلطة الاحتلال، أوجدت تربةً خصبة للاقتتال، والتصارع، والتنافس على السلطة، لا على مقاومة الاحتلال. فقدان الفلسطينيين السيادة الفعلية على أرضهم تتعارض والإرادة الحرة، التي تتطلبها الانتخابات، وتخوّلهم حق الاختيار قبولاً أو رفضاً، والاعتراف به. إذ اصطدم الخيار الديمقراطي الفلسطيني بالسقف الذي تتيحه سلطة الاحتلال، ولا يتعارض
ومصالحها؛ سيطرة "حماس" انتخاباً على المجلس التشريعي عام 2006، ومنع حكومتها من مزاولة حكمها مثال بارز على هذا الصعيد. السقف الديمقراطي لانتخابات الرئاسة عام 1996 توضّح لا بوصفها تجسيداً للإرادة الفلسطينية الحرة، بل صيغة تسوّق "أوسلو"، وتضفي على أصحابه شرعية داخلية وخارجية، شركاءَ في عملية تفاوضية تنهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وكانت انتخابات 2005 بمثابة ملء شاغر بعد غياب الرئيس ياسر عرفات، أكثر منها عملية ديمقراطية، تعطي الفائز تفويضاً للفصل في القضايا الرئيسية. ازدادت الأمور خللاً وتعقيداً مع استمرار التداخل بين مركبّات الحياة السياسية الفلسطينية، خصوصاً التداخل بين منظمة التحرير والسلطة الوطنية، ما أدى إلى تشويش على شرعية وتمثيل تلك المركبّات.
استولت "حماس" عبر "قوتها التنفيذية" على قطاع غزة صيف عام 2007، وخضع القطاع لحصارين؛ داخلي وخارجي، ولم يتمكّن المجلس التشريعي الفلسطيني الذي هيمنت عليه "حماس" من تحقيق النصاب القانوني. تنامى الصراع بين حركتي حماس وفتح انقساماً جيوسياسياً حادّاً. لم تكن الانتخابات التي اقتصرت على فلسطيني الأراضي المحتلة، في أربع مناسبات، صيغة ديمقراطية فعّالة في إدارة الشأن العام الفلسطيني، وللتداول السلمي للسلطة، بل أفضت إلى تفتيت المشروع الوطني، وإلى مزيد من التشظي السياسي، والفصائلي، والمناطقي، حين تغلّبت المصالح الحزبية الضيّقة على المصلحة الوطنية.
خضع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لاحتكار سلطتين متصارعتين مجالهم العام، وانعدمت فاعلية الفعل التشريعي لصالح الفردية والسلطوية والزبائنية، ما غيّب الرأي العام، وعرقل أي حراكٍ اجتماعي سياسي من خارج الكوتا الفصائلية. وبينما تسترت سلطة رام الله وراء المفاوضات خياراً وحيداً في وجه الاحتلال، ورفضت أي راديكالية، تسربلت "حماس" بثورجية شعبوية لم تقدم ولم تؤخر، لا على صعيد رفع الحصار، ولا حتى على صعيد المعيشة اليومية للفلسطينيين، أحد عوامل صمودهم المطلوبة لخوض كفاح مسلح، ولم تكن الشعارات الرنّانة كافية لتحمّل ضربات إسرائيلية مؤلمة، عقاباً على صواريخ لم تجن منها حركة حماس تثبيت قدميها في أي مسار سياسي.
بعد هيمنة الفصائل المسلحة على منظمة التحرير، اتسمت الحركة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها بسياسة إقصائية تحت عنوان "ديمقراطية البنادق"، بوصفه تبريراً لغياب الديمقراطية. وعلى الرغم من أن ساحات فرعية شعبية ونقابية شهدت ممارسات ديمقراطية، تمثيلاً وانتخاباً، إلا أن ذلك لم يصبح ميزةً أساسيةً من مميزات التركيبة المؤسسية الفلسطينية قبل "أوسلو"، ليحتدم بعده الصراع، حين بدأت فصائل من خارج الجسدين؛ السياسي والعسكري، لمنظمة التحرير، تبنّت المشروع الإسلامي، ولم تؤمن بالديمقراطية، تطالب
بحصّتها من الشراكة في القرار الفلسطيني، ولاحقاً بحصتها من الكعكة الانتخابية.
أفرزت اتفاقيات أوسلو نظاماً سياسياً معطَّلاً افتقر إلى التمثيل الشعبي، وناء تحت ضغوط خارجية، لتقرّر مصير مؤسساته، ونخبه السياسية، دولة الاحتلال الإسرائيلي، والولايات المتحدة الأميركية، والقوى الإقليمية، والجهات الدولية المانحة. لم تتح للفلسطينيين فرص كافية للتخلص من الإرث السلطوي الذي هيمن على بنية القيادة الفلسطينية، ولا التحرّر من نظام الكوتا والمحاصصة الفصائلية. القمع، والاستبداد، وتكميم الأفواه، والغياب شبه التام للتمثيل، كانت نتائج شبه حتمية، لم يَكْفِ معها ديمقراطية مختزلة في صناديق اقتراع، من دون معاييرها الأساسية، مدمجة في بنية مؤسسات الفلسطينيين الوطنية، وأحزابهم، وفصائلهم السياسية، ومجتمعهم المدني، ونظامهم التعليمي، وفي إطارهم الثقافي العام.
هل الفلسطينيون على موعد مع انتخابات تشريعية أو رئاسية؟ في كل حال، لا خير في انتخاباتٍ ستكشف مجدّداً ضعفَ النهج الانتخابي تحت سلطة الاحتلال، في ظل تخلف إنمائي تعاني منه المناطق الفلسطينية، وفي غياب قواعد تتفق عليها الأجندات السياسية المتنافسة، وتلتزم بها، ومن دون تعزيز مبادئ الديمقراطية والتمثيل والاحترام المتبادل في مشروع الحركة الوطنية الفلسطينية.
لعلّ الفلسطينيين بحاجة اليوم إلى إعادة بلورة مشروعهم الوطني الجامع، انطلاقاً من استراتيجية نضالية مدنية، تحظى بتوافق معظمهم، في الداخل والشتات، قبل حاجتهم إلى انتخاباتٍ في نظام ديمقراطي مبتسر، تحت سلطة الاحتلال (؟)
تمنح الانتخابات للأحزاب والقوى السياسية فرصة للتنافس من أجل خدمة الصالح العام في ظل نظام ديمقراطي، أما في الحالة الفلسطينية فقد أصبحت الانتخابات بوابة واسعة لمزيد من التناحر والإقصاء، وتعزيز حالة الانقسام التي أفرزتها الانتخابات نفسها، في ظل ديمقراطية عرجاء تحت سلطة الاحتلال، أوجدت تربةً خصبة للاقتتال، والتصارع، والتنافس على السلطة، لا على مقاومة الاحتلال. فقدان الفلسطينيين السيادة الفعلية على أرضهم تتعارض والإرادة الحرة، التي تتطلبها الانتخابات، وتخوّلهم حق الاختيار قبولاً أو رفضاً، والاعتراف به. إذ اصطدم الخيار الديمقراطي الفلسطيني بالسقف الذي تتيحه سلطة الاحتلال، ولا يتعارض
استولت "حماس" عبر "قوتها التنفيذية" على قطاع غزة صيف عام 2007، وخضع القطاع لحصارين؛ داخلي وخارجي، ولم يتمكّن المجلس التشريعي الفلسطيني الذي هيمنت عليه "حماس" من تحقيق النصاب القانوني. تنامى الصراع بين حركتي حماس وفتح انقساماً جيوسياسياً حادّاً. لم تكن الانتخابات التي اقتصرت على فلسطيني الأراضي المحتلة، في أربع مناسبات، صيغة ديمقراطية فعّالة في إدارة الشأن العام الفلسطيني، وللتداول السلمي للسلطة، بل أفضت إلى تفتيت المشروع الوطني، وإلى مزيد من التشظي السياسي، والفصائلي، والمناطقي، حين تغلّبت المصالح الحزبية الضيّقة على المصلحة الوطنية.
خضع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لاحتكار سلطتين متصارعتين مجالهم العام، وانعدمت فاعلية الفعل التشريعي لصالح الفردية والسلطوية والزبائنية، ما غيّب الرأي العام، وعرقل أي حراكٍ اجتماعي سياسي من خارج الكوتا الفصائلية. وبينما تسترت سلطة رام الله وراء المفاوضات خياراً وحيداً في وجه الاحتلال، ورفضت أي راديكالية، تسربلت "حماس" بثورجية شعبوية لم تقدم ولم تؤخر، لا على صعيد رفع الحصار، ولا حتى على صعيد المعيشة اليومية للفلسطينيين، أحد عوامل صمودهم المطلوبة لخوض كفاح مسلح، ولم تكن الشعارات الرنّانة كافية لتحمّل ضربات إسرائيلية مؤلمة، عقاباً على صواريخ لم تجن منها حركة حماس تثبيت قدميها في أي مسار سياسي.
بعد هيمنة الفصائل المسلحة على منظمة التحرير، اتسمت الحركة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها بسياسة إقصائية تحت عنوان "ديمقراطية البنادق"، بوصفه تبريراً لغياب الديمقراطية. وعلى الرغم من أن ساحات فرعية شعبية ونقابية شهدت ممارسات ديمقراطية، تمثيلاً وانتخاباً، إلا أن ذلك لم يصبح ميزةً أساسيةً من مميزات التركيبة المؤسسية الفلسطينية قبل "أوسلو"، ليحتدم بعده الصراع، حين بدأت فصائل من خارج الجسدين؛ السياسي والعسكري، لمنظمة التحرير، تبنّت المشروع الإسلامي، ولم تؤمن بالديمقراطية، تطالب
أفرزت اتفاقيات أوسلو نظاماً سياسياً معطَّلاً افتقر إلى التمثيل الشعبي، وناء تحت ضغوط خارجية، لتقرّر مصير مؤسساته، ونخبه السياسية، دولة الاحتلال الإسرائيلي، والولايات المتحدة الأميركية، والقوى الإقليمية، والجهات الدولية المانحة. لم تتح للفلسطينيين فرص كافية للتخلص من الإرث السلطوي الذي هيمن على بنية القيادة الفلسطينية، ولا التحرّر من نظام الكوتا والمحاصصة الفصائلية. القمع، والاستبداد، وتكميم الأفواه، والغياب شبه التام للتمثيل، كانت نتائج شبه حتمية، لم يَكْفِ معها ديمقراطية مختزلة في صناديق اقتراع، من دون معاييرها الأساسية، مدمجة في بنية مؤسسات الفلسطينيين الوطنية، وأحزابهم، وفصائلهم السياسية، ومجتمعهم المدني، ونظامهم التعليمي، وفي إطارهم الثقافي العام.
هل الفلسطينيون على موعد مع انتخابات تشريعية أو رئاسية؟ في كل حال، لا خير في انتخاباتٍ ستكشف مجدّداً ضعفَ النهج الانتخابي تحت سلطة الاحتلال، في ظل تخلف إنمائي تعاني منه المناطق الفلسطينية، وفي غياب قواعد تتفق عليها الأجندات السياسية المتنافسة، وتلتزم بها، ومن دون تعزيز مبادئ الديمقراطية والتمثيل والاحترام المتبادل في مشروع الحركة الوطنية الفلسطينية.
لعلّ الفلسطينيين بحاجة اليوم إلى إعادة بلورة مشروعهم الوطني الجامع، انطلاقاً من استراتيجية نضالية مدنية، تحظى بتوافق معظمهم، في الداخل والشتات، قبل حاجتهم إلى انتخاباتٍ في نظام ديمقراطي مبتسر، تحت سلطة الاحتلال (؟)