منير مويتش: مقامة الخفاجي والهجوم المعاكس لكاتب السلطان

منير مويتش: مقامة الخفاجي والهجوم المعاكس لكاتب السلطان

23 يونيو 2020
رسم لمدخل قصر "طوب قابي" في إسطنبول، 1840 (Getty)
+ الخط -

صدر في سراييفو موخراً عن "مركز الدراسات المتقدّمة" كتاب الباحث منير مويتش بعنوان "شرح على المقامة الرومية لمؤلف مجهول: قوة وحدود الشرح"، وهو عمل يتضمّن دراسة وتحقيقاً لمخطوطة فريدة في اللغة العربية موجودة في "مكتبة الغازي خسرو بك" بسراييفو لم تكن معروفة حتى 2013، عندما نُشر الجزء الثامن عشر من فهرس مخطوطات المكتبة.

يشير مويتش، أستاذ الدراسات العربية في جامعة سراييفو، في المقدمة، إلى أنّ هذه المخطوطة ليست بخط المؤلف المجهول، الذي يبدو عالماً باللغة والأدب والتاريخ والشرع، بل إنها منسوخة بيد علي بن مصطفى، من مدرسة الشيخ إبراهيم باشا في مدينة ترافنيك بالبوسنة عام 1146هـ/ 1733م، وهذا يدلّ على أن المؤلف معاصر أو قريب من الخفاجي، وأن هذا "الشرح" أو الردّ على "المقامة الرومية" أثار الانتباه وجرى نسخه حتى وصل إلى مدينة ترافنيك في البوسنة.

وفي دراسته للمخطوط يعتبر مويتش أن هذا العمل للمؤلف المجهول كان نوعاً من "الانتقام الأدبي" ضد العالم والشاعر المصري المعروف شهاب الدين الخفاجي (1569-1659م)، الذي كان قد وصل إلى منصب قاضي العسكر بمصر العثمانية وجاء إلى إسطنبول لطلب تثبيته أو تعيينه في منصب مناسب، إلا أن شيخ الإسلام زكريا زاده يحيى أفندي لم يوافق على طلبه بتعيينه في منصب ما لسبب غير واضح، وربما لمأخذ عليه يتعلق بتبرّمه من حال الدولة العثمانية كما رآها في العاصمة.

ومما يؤكّد ذلك أن المؤلف، الذي نسمّيه هنا "كاتب السلطان"، ينتقد ويسخّف الخفاجي من موقع المدافع عن السلطان وشيخ الإسلام والدولة العثمانية والإسلام. ومع أنّ الخفاجي لم يذكر بالاسم من كان ينتقده في "المقامة الرومية" بل كان يميل إلى التعميم في نقده لما آلت إليه الحال في عاصمة الدولة العثمانية، بينما كان أسلوب الشارح يغلب عليه التجريح والتشكيك في علم الخفاجي ولغته وأدبه ودينه.

وبهذا المعنى فإن "المقامة الرومية" للخفاجي والردّ العنيف عليها يفيد في التعرّف على حالة الدولة العثمانية في القرن السابع عشر بين المنتقدين لها ولو بالتلميح وبين المدافعين عنها كما هي، وبالتحديد على مستوى العلماء الذين يكتبون باللغة العربية، حيث إن "استراتيجية الشارح"، كما يسمّيها مويتش، كانت تقوم على تفكيك النص لغة وبلاغة وشعراً لتسفيه ما ورد فيه مع التحامل الواضح عليه للدفاع عن الدولة العثمانية، التي يعتبر أن الخفاجي المصري قد أساء إليها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أحمد بن محمد ابن عمر شهاب الدين الخفاجي المصري ولد في سراقوسة، شمال القاهرة، حوالي 1569م في أسرة معروفة خرّجت العديد من العلماء، من بينهم والده الشيخ محمد بن عمر، الذي كان من علماء الأزهر. وقد درس الخفاجي في الأزهر أولاً ثم تابع تحصيله العلمي في مكة المكرمة والمدينة المنورة وفي إسطنبول أيضاً.

وفي عهد السلطان مراد الرابع (1623-1640)، عُيّن قاضياً في سكوبيه (عاصمة مقدونيا الشمالية حالياً)، ثم في سالونيك وبعدها قاضياً للعسكر في مصر. ويبدو أنه لسبب غير معروف لم يُمدّد له فذهب إلى إسطنبول لأجل ذلك، إلا أن شيخ الإسلام زكريا زاده يحيى أفندي (توفي في 1664)، لم يوافق على تعيينه في ما رغب فيه، فعاد إلى مصر ليقتنع بـ"قضاء يعيش منه" ويتفرّغ لإنجاز كتابيه "ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا" و"خبايا الزوايا فيما في الرجال من البقايا"، اللذين استعرض فيهما مَن عرفه من علماء وشعراء الروم الذين التقاهم في إسطنبول بروح نقدية وبلاغة لا تقتصر على المجاملة، وأورد فيهما "المقامة الرومية" التي أثارت أحد "علماء السلطان".

ففي كتابه "خبايا الزوايا" المذكور، الذي نُشر مؤخراً في دمشق ("مجمع اللغة العربية"، 2015)، يستعرض الخفاجي في القسم الرابع بعض مَن عرفهم من علماء وشعراء الروم أو الأتراك. ومن هؤلاء نجد في حديثه عن شيخ الإسلام المعروف أبو السعود أفندي (1495-1574)، أنه يقرّ بكونه "أشعر أهل جلدته"، ويأتي بنماذج من شعره في العربية، إلا أنه يأخذ عليه كونه "يفرط في حبّ ذوي المال، ويتّبع ظلّ سلطانه ليقيل في بارد هواه، حتى جعل تقديم أطفاله سنّة... فصارت سبباً لانطفاء نبراس العلم ودروسه وتعطّل أطلال رسومه ودروسه".

ومن هنا فإن ما أورده في ثنايا الكتابين المذكورين أهم بكثير مما جاء به في "المقامة الرومية" التي اكتفى فيها بملاحظات عامة عن حالة العلم والعلماء في عاصمة الدولة العثمانية (إسطنبول)، دون أن يذكر أحداً بالاسم أو أن يسفّ في الحديث عن العلماء الذين أدركهم آنذاك، مع تعبيره عن الشعور بالغبن بين السطور، حتى يقول في نهاية "المقامة الرومية"، التي يعطيها عنواناً آخراً معبّراً أكثر "عتاب الزمان في سبب حرمان بني الأعيان"، إنه رضي "من الغنيمة الإياب".

وعلى الرغم من هذا النقد الخفيف في "المقامة الرومية" الذي لا يسمي فيه أحداً ولا يسيء فيه إلى أحد بذكر أو وصف، نجد أن "كاتب السلطان" الذي اختار لنفسه مهمة الدفاع عن السلطان والسلطنة والعلماء فيها اعتمد على "استراتيجية هجومية" يهاجم فيه الخفاجي في كلّ الجبهات (في لغته وأسلوبه وأدبه وعلمه ودينه)، ويكيل له أسوأ التهم كما سنرى.

وهكذا يقول "كاتب السلطان" الذي نجهل اسمه: "هذه المقالة وجدتُها بخط شهاب المصري قد جعلها ذمّاً في أركان الدولة العثمانية وأعيانها، من مواليها ومشايخها وقرّائها وأرباب شأنها، ولم يخش من الحقّ والخلق، بل حمل عصا العصيان وشقّ وتكلم بألفاظ وُجب عليه ما وُجب"، و"غالب ما سوّده من الأوراق مثابة لوجهه في الدنيا...وكان يظنّ الفقير أن فيه رائحة العلم ولكنه بعض الظنّ". وفي تصعيد يعبّر عن الدافع والمأمول يتابع قائلاً "وقد أخذتني الغيرة العلمية والإسلامية على ردّ مقالته عليه وإرسال حيّاتها وعقاربها من كلّ حدب إليه".

وبعد هذه المقدمة ينتقل "كاتب السلطان" إلى استعراض ملاحظاته على الخفاجي بعد أن يدعو عليه بالقول "أحرقه الله بنار الالتهاب ومزّق منه الإهاب، فقد هجا في هذه المقالة جميع الموالي العظام والمشايخ الكرام والقرّاء الفخام والخاص والعام". ولكن بعد سطور يتّضح الدافع الحقيقي لـ"كاتب السلطان"، فهو ينتقد بشدّة الخفاجي لا لشيء سوى لأنه "كان الواجب عليه أن يبتدئ بمدح حضرة سلطان تلك الجنة الرفيعة (إسطنبول) ويلهج بكمال عدالته وحسن سيرته في مملكته".

ولتغطية هذا الدافع الحقيقي لشرحه على "المقامة الرومية"، يُغرق "كاتب السلطان" القارئ في تفصيلات بلاغية واتهامات للخفاجي بالسرقة في أشعاره التي ساقها في "المقامة الرومية" وغير ذلك. وفي الحقيقة إن ما خطّه "كاتب السلطان" أكثر من "شرح" لمقامة أو "مقالة" الخفاجي، كما سمّاه في مقدمته، إذ إنه أقرب إلى تعليق أو سجال مع الخفاجي يسعى فيه باسم الإسلام والسلطان إلى تفنيد وتسخيف الخفاجي في تفاصيل بلاغية لا لشيء سوى لأنه "كان الواجب عليه أن يبتدئ بمدح حضرة سلطان تلك الجنة الرفيعة" وذلك لكي يعزّز مكانته لدى السلطان. وطالما إننا لا نعرف اسم المؤلف بعد، في انتظار العثور على نسخة المؤلف أو نسخة أخرى، فلا نعرف بطبيعة الحال بماذا تكرّم السلطان على من يرتضي أن يكون "كاتب السلطان".

من الناحية الفنية أو المنهجية كان "كاتب السلطان" يذكر كلّ جملة للخفاجي بشكل يميّزها عن غيرها بعد "قال" ثم يردّ عليه بالتفنيد والتسخيف بعد "أقول". وفي هذا السياق يَذكر مثالاً ليوضّح في البلاغة أن الخفاجي لا يميز في ما ساقه من "مراعاة النظير" بين "إيهام النظير" و"مراعاة النظير". وفي مثال آخر يذكر شطر بيت للخفاجي "جناه ليد الآمل داني" لينتقده بأن "داني" خطأ لأنه اسم فاعل محذوف الياء للقاعدة الصرفية مستشهداً بالآية القرآنية في سورة الرحمن "وجنى الجنّتين دان"، دون الأخذ بعين الاعتبار ضرورات الشعر والفرق بين الشعر والقرآن، بل لكي يوهم القارئ بأن الخفاجي يخالف بذلك ما جاء في القرآن.

وفي مثل آخر يورد بيتا للخفاجي يوضّح خيبته من زيارته إلى إسطنبول حيث عُرض عليه أقل بكثير مما كان يأمل، ولذلك قال شعراً: قيل لي ترضى بوعد كاذب فقلتُ إن لم يكن لحم فمَرَقُ

ولكن "كاتب السلطان" يتوقف هنا لاتهام الخفاجي بالسرقة قائلاً: "هذا البيت من بناء الخير، وقد غار عليه سرقة وغيّر لبنة منه والأصل" مع الفارق بين البيتين: فلأشكرنّ فتى أجاب وما دُعي.

وربما أصاب "كاتب السلطان" في ملاحظة حين ذكر الخفاجي خطأً "النعمان بن ماء السماء" عوضاً عن "المنذر بن ماء السماء" أحد ملوك الحيرة في القرن السادس الميلادي. ولكن هذا الخطأ لا يبرّر لـ"كاتب السلطان" ما انتهى إليه من تشنيعه على الخفاجي بالقول إن هذا "دليل على أنه راجل في معرفته فنون الأدب والاطلاع على أنساب العرب مع أنه يزعم أن علم ذلك مقصور عليه".

وفي موضع آخر يورد الخفاجي بيت شعر له يقول فيه: "حتى حططتُ عصا الترحال بقسطنطينية الروم" وكما هو معروف بقي تعبير "الروم" يُطلق في المشرق على السلاجقة والأتراك، ويستخدمه الخفاجي في مؤلفاته ("بلاد الروم" و"شعراء الروم" إلخ)، وحتى أنه سمّى ما كتبه "المقامة الرومية". وكان السلاطين في كتبهم وإراداتهم يستخدمون أيضاً هذا الاسم (قسطنطينية)، وحتى في الكتب التي أصبحت تطبع في إسطنبول بعد السماح بطباعة الكتب. ولكن "كاتب السلطان" يرى في ذلك خطأ فاحشاً ويوجّه سهام نقده للخفاجي كأنه قد أساء للسلطنة: "قد جرّته القافية إلى خطأ فاحش وذلك لأن قسنطينينة عَلم... فلا يقال لها بعد أن صارت سرير السلطنة العلية قسطنطينية الروم بل يقال لها دار الإسلام بالعربية أو إسلام بول بالتركية".

وبالعودة إلى العنوان "سلطة وحدود الشرح"، يتضح أن "الشارح"، كما سمّى نفسه أو "كاتب السلطان" كما سمّيناه، أعطى لنفسه سلطة مرجعية باسم الدولة (العثمانية) للدفاع عن السلطان والسلطنة بنقد أو تسفيه الخفاجي بشكل متحامل للغاية لأنه أظهر في "المقامة الرومية" عدم الرضا عن حال العلم والعلماء في عاصمة الدولة (إسطنبول) بعدما زارها واطلع على أحوالها، ولأنه لم يبدأ مقامته "بمدح حضرة سلطان تلك الجنة الرفيعة ويلهج بكمال عدالته وحسن سيرته في مملكته".

وبعبارة أخرى، إن "كاتب السلطان" لم يلتزم بحدود كما فعل الخفاجي في مقامته، حيث إنه التزم بحدود الأدب والنقد الخفيف الذي لا يصل إلى التسفيه، وإنما تصرّف كأنه يمثل السلطة، ولذلك لم يكن هناك حدود لنقده "الانتقامي" ضد الخفاجي.

وأخيراً يمكن القول إن ما قام به مويتش من تحقيق هذه المخطوطة الفريدة ودراستها وإخراجها حسب الأصول العلمية في هذا الكتاب يدفع للأمل في أن تخرج قريباً باللغة العربية أيضاً لأنها تعبّر من ناحية عن واقع الحال في الدولة العثمانية في القرن السابع عشر، بعدما وصلت إلى الذروة، كما تضيء ما يتعلق بالتشابك والتنافس بين العلماء أو المثقفين في ذلك الوقت، ولنا أن نُسقط على الحاضر نموذج "كاتب السلطان" الذي يزدهر في هذا الزمان.

المساهمون