منفى المثنّى

منفى المثنّى

21 اغسطس 2020
(زخرفة على السيراميك، من "متحف الفنون الإسلامية" في برلين)
+ الخط -

من منظور التحليل النفسيّ يولد الإنسان مهاجراً قسريّاً. أو منفيّاً. تُدَشِّنُ الولادةُ النفسيّة للطفلِ نزوحاً إلى منفى لا عودةَ منه. منفى "المُثَنّى". العلاقة الفاتِنة والمُضْطَربة حتماً مع الآخر. الحياة هي ألمُ المُثَنّى باعتبارِهِ نقيضاً ناقصاً وعطشاناً للمُفْرَد المكتفي بذاته والمرتوي بمائه.

يُنْفى الطفلُ عن ديارِهِ الأولى على تخوم العالم، هناك حيث يقيم حصريّاً في حضنِ أمّه وقلبِها وذهنِها وذاتِها المُفْرَغة من كلّ شيء إلّا منه، ويُقذفُ خارج بوتقة انصهارِهِ وذوبانِهِ معها، أي خارج حالة فردوسيّة تماميّة لا شرخ فيها ولا شوق ولا حنين، ولا احتياج. ويقضي جُلَّ عمرِهِ في العودة المتخيّلة الى وطنٍ أموميٍّ رحيمٍ وغامضٍ لا يستطيع إليه سبيلاً.

كُلُّ بحثٍ عن الآخر بعد ذاك الحدث الجلل يظلّ موسوماً ومكلوماً بذاك الفقدان العظيم. حيث تضجّ الحياة بالحياة وبالآخرين كورشة بناء وترميمات لا تنتهي، صامتة أحياناً وصاخبة أحياناً أخرى، لذلك الانهيار الذي يفجع الحياة ويُؤنسنُها في آن.

تقول لنا الهجرة النبويّة، في ما تقول، إن كلَّ مشروعِ ولادةٍ للذات فرديّةً كانت أم جمعيّةً يؤسَّسُ على الهجرة عنها وعن جاهليّتهِا وربوعِها الآمِنة وعلى المحاولة التي لا تكلّ للعودة إليها وإلى شِعابِها ومنازلِها الأولى وعلى التصالح المعرفيّ والعاطفيّ معها من خلال الآخرين، ومع الآخرين.

تقول لنا الهجرة النبويّة، في ما تقول، إن لا شيء يؤنسِن الحياة ويكثّف خطورَتَها وخصوبتَها كما الهجرة بكلّ تجلّياتها الواقعية والرمزيّة والخياليّة، وإنّ لا شيء يلهمُها معناها كمنفاها.


* شاعر واختصاصي نفسي عِيادي من فلسطين

موقف
التحديثات الحية

المساهمون