مناجم الغضب في قفصة التونسية... قنبلة موقوتة

مناجم الغضب في قفصة التونسية... قنبلة موقوتة

12 مايو 2015
الوضع مخيف وينبئ بانفجار محتمل (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

لم تبدأ الثورة التونسية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، إذ يجمع المحللون والمؤرخون على أنّها ثمرة تراكمات عديدة، كانت انتفاضة الحوض المنجمي في الجنوب الغربي في عام 2008 أهم حلقاتها التي بشّرت باقتراب انتهاء نظام زين العابدين بن علي، ورفعت حاجز الخوف والصمت. اليوم، وبعد مرور أربع سنوات على الثورة، يعود الشعور نفسه بالضيم والتناسي وفقدان الأمل، لينذر بانفجار أكبر في المنطقة، علّه يحرّك بقية المناطق التي تتقاسم الشعور بأنّ لا شيء تغيّر بعد الثورة.

اعتصامات، مواجهات مع الأمن، إضرابات متتالية، وتوقف كلّي للمناجم وكل الشركات التي تنطلق من مادة الفوسفات لاستخراج مشتقاته أو لنقله وتصديره، وخسائر تُقدّر بمئات الملايين سنوياً لميزانية الدولة، ما يهدّد بإفلاسها ودخولها في دوامة لا نهاية لها.

يقول عضو مجلس نواب الشعب، عدنان الحاجي، لـ"العربي الجديد" إنّ "الوضع الحالي في قفصة مخيف ومتأزم وينبئ بانفجار محتمل في الاتجاهين، ونخشى من الحل الأمني الذي قد تلجأ إليه السلطة، كما نخشى أن تصبح المعركة داخلية بين أبناء قفصة. فالاعتصامات غير مؤطّرة، ولا يوجد سقف مطلبي وتصوّر لنهاية الأزمة، وربما ينعكس ذلك على أبناء المنطقة، ولا أستطيع أن أجزم بوجود بوادر انفراج، والأمر مرتبط بالحلول التي ستقدمها السلطة".

وضع مأزوم إلى درجة دفعت بالرئيس الباجي قائد السبسي إلى التعهد بأن تقدم الحكومة حلولاً وإجراءات لمشكلة الحوض المنجمي خلال أسبوع، "لأن القضية لا تتعلق بالفوسفاط وحده وإنما بعديد المسائل المترابطة فيما بينها".

وأشار الى أن قضية الفوسفاط والثروات الطبيعية هي "قضية أمن قومي"، لافتا الى أن هناك تجاذبات ولوبيات تتدخل في الموضوع، وأن رئيس الحكومة سيقدم حلولاً لقضية المناجم في ظرف أسبوع.

يؤكّد الناشط الحقوقي عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مسعود الرمضاني، بدوره لـ"العربي الجديد" أنّه لم يرَ بوادر انفراج في مسألة الحوض المنجمي، لأنّ المشاكل لا تزال تتعمّق، وهناك جوانب عديدة للأزمة تخصّ الجانب العقاري والبيئي والتشغيلي والدور الاجتماعي لشركة فوسفات قفصة، ولا يمكن حل الأزمة من دون التطرق إلى هذه المعطيات وأخرى تتعلّق بالصحة والبيئة، ما يعني أنّ حل القضية سيكون صعباً ويتطلب فهماً عميقاً من قبل السلطة.

ميدانياً، كان لا بدّ من التجول في شوارع المدن المنجمية، "المظيلّة" و"أم العرائس" و"الرديّف" و"المتلوّي"، حيث توقّف قطار الزمن في ستينيات القرن الماضي في مدن رمادية كساها غبار المناجم المتراكم منذ الاستعمار، وتُسجّل في هذه المناطق أعلى نسب الإصابة بأمراض الرئتين والسرطان، ولا يوجد مستشفى لعلاجها. كما تُسجّل نسبة البطالة الأكبر في البلاد. وتعتبر هذه المدن منسيّة من الحكومات المتعاقبة منذ عشرات السنين، على الرغم من أنّها تقدم للبلاد سنوياً مئات الملايين من فوسفاتها.

لم تكن محافظة قفصة محظوظة في علاقتها مع الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ولا الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، فقد كانت تُعاقب دائماً بسبب تعنّت أهلها النقابيين والمعارضين، فكانت منسية في برامج التنمية على غرار الساحل والشمال، ما عمَّق الشعور بالضيم الذي توارثته الأجيال.

اقرأ أيضاً حسين العباسي: تونس تعيش بوادر ثورة ثانية

يتقاسم هذا الإحساس أغلب شباب المنطقة المعتصمين الذين تحدثت إليهم "العربي الجديد"، إذ يؤكد جاسم الهنشيري (25 سنة، عاطل عن العمل) أنّ الشباب يتوزّعون على المقاهي في ظلّ غياب الحلول، لافتاً إلى أنّ المنطقة كانت أفضل في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وكانت حياة الناس أفضل في ظلّ وجود وسائل الترفيه. ويتابع: "يختلف الوضع اليوم تماماً، وذلك بسبب الأمراض الرئوية المنتشرة". ويضيف الهنشيري أنّ الاعتصامات والإضرابات مستمرة منذ عام 2008، احتجاجاً على الانتدابات العشوائية التي تقوم على الولاءات والمحسوبية، "لكننا لن نتراجع هذه المرة في الضغط على الحكومة لتحقيق مطالبنا في التنمية والبيئة والعمل، وتتلخّص هذه المطالب في تخصيص جزء من عائدات الفوسفات لأهل المنطقة"، موضّحاً أنّها لن تكون حسنة من الحكومة، بل تعويض عن سنوات من الظلم والحرمان.

ويلفت الهنشيري إلى أنّ معدلات الجريمة وانتشار المخدرات ارتفعا في الحوض المنجمي، وأن شركة الفوسفات لم تخلّف إلّا الدمار والتفكّك بين العائلات، مقدّراً عدد المعتصمين بالمئات من الرجال والنساء.

ويعتبر أهالي المناجم أنّ مادة الفوسفات تحولت من نعمة مفترضة إلى لعنة محتّمة، لأنّ تداعياتها كانت كارثيّة مخلّفة مشاكل اجتماعية وصحية كثيرة.

ويقول نائب الجبهة الشعبية عن منطقة قفصة، عمار عمروسية، لـ"العربي الجديد" إنّ "ما يتم ترويجه حول تهمة الخلفية السياسية للاحتجاجات عار عن الصحة، لأنّ النواب السبعة عن المنطقة الذين يمثلون كل الأحزاب التونسية يميناً ويساراً متفقون حول كل المطالب التي تقدّموا بها إلى الحكومة، غير أنّ هذه الأخيرة لم تتعامل بجدية مع الموضوع.

ويحذّر عمروسية من قيام ثورة جديدة في تونس في ظلّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد على وقعها منذ مدّة، لأنّ الحكومة تتجاهل الوضع، ومستمرة في الخيارات القديمة التي أهلكت البلاد من خلال التهميش والفساد والجهويّات.

ويشير عمروسيّة، أحد معارضي النظام السابق، إلى أنّ عدد الموقوفين بسبب الاحتجاجات والاعتصامات بلغ حوالى 400 شاب، مطالباً بإطلاق سراحهم فوراً. ويوضح أنّ لا أحد يريد تعطيل إنتاج الفوسفات لأنّ توقفه سيضرّ بالجميع، "لكن لا بد أن تلتفت الحكومة بجدية إلى المشاكل الحقيقية التي تعيشها منطقة قفصة"، معرباً عن تفاؤله بشأن المجلس الوزاري الذي سيعقد في الأيام المقبلة لتقديم حلول حقيقية لها.

وكان الوزير المكلف بمتابعة ملف الحوض المنجمي، لزهر العكرمي، قد أكّد أنّ الحكومة تعمل على إعداد ملف من الإجراءات المتكاملة لفائدة منطقة الحوض المنجمي ومحافظة قفصة عموماً، لافتاً إلى أنّه لا يجب أخذ الفوسفات كرهينة.

في المقابل، يؤكد مدير الشؤون الاجتماعية في شركة فوسفات قفصة، محمد الشريف بن حسن، لـ"العربي الجديد" أنّ الوضع خطير وينبئ بخطر كبير، "فالشركة معطلة وكل نشاطاتها متوقفة، فلا إنتاج ولا استخراج ولا تسويق، وكل ذلك، نتيجة الاعتصامات، وهذا حق دستوري، لكن من حقي أنا أيضاً المطالبة بالعمل".  

وحول عجز الشركة عن دفع رواتب موظفيها في القريب العاجل، يقول الشريف إنّه ينتظر، "باعتبار أنّ نشاطات الشركة معطّلة، ووصلت إلى مرحلة تحت 72 بالمائة من الإنتاج المقرر إنتاجه في عام 2015. أنتجنا 28 بالمائة فقط، وذلك غير كاف لدفع رواتب 7000 عامل في الشركة و1600 عامل في شركة النقل، وأجور بين 5000 و6000 عامل في البيئة.

هذا ما أكّده القيادي البارز في حركة النهضة، عبداللطيف المكي، حين أشار إلى أنّ هناك بوادر إفلاس في شركة فوسفات قفصة في ظلّ تواصل الإضرابات والاحتجاجات، محذّراً من أنّ 30 ألف عامل بشركة فوسفات قفصة مهددون بالبطالة في حال عدم تفادي الإضرابات، داعياً إلى ضرورة وجود حلّ تفاوضي واقعي بين الأهالي والحكومة.

غير أنّ المكي لفت إلى أن تخصيص جزء من عائدات الفوسفات لأهالي قفصة من شأنه أن يغذي الجهوية ويفتح الباب لمطالب مماثلة في جهات أخرى من البلاد، إذ لا بدّ من التأني في النظر إلى هذا المقترح، وهذا ما دعا إليه بعض أهالي قفصة في الآونة الأخيرة، ما فتح باب السجال واسعاً، وحوّل المطالب الاجتماعية إلى رأس جدول النقاشات السياسية.

اقرأ أيضاً: موجة من الإضرابات تشهدها تونس

ووصف الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي، الوضع في شركة فوسفات قفصة بالخطير، داعياً إلى مراجعة القانون الأساسي وإعادة هيكلة الشركة، لأنّها أصبحت عاجزة عن الاستجابة للتغيرات في عالم الشغل.

وأوضح خلال اختتام أشغال المجلس الوطني للاتحاد بمدينة توزر في الجنوب منذ أيام، أنّ المسؤولين في المجمّع الكيميائي هددوا باستيراد الفوسفات الخام من مواقع أخرى للتحويل واستخراج مشتقاته، نافياً قيام النقابات بتعطيل عمل الشركة، ومشدّداً على أنّ الهدف يكمن في النهوض بالشركة والحفاظ على مرتبة تونس في إنتاج الفوسفاط في العالم.

تراجع ترتيب الشركة عالمياً لتصبح في المرتبة التاسعة بعد أن كانت في عام 2010 في المرتبة الخامسة من بين منتجي الفوسفات في العالم.

اقرأ أيضاً: زيادة غضب التونسيين من أوضاع بلادهم