ممنوع التصوير

ممنوع التصوير

25 أكتوبر 2014

طفولة

+ الخط -

لوّحت الشمس وجهه الأسمر الغض، فأظهرت خطوط رجولةٍ قسريةٍ قاسيةٍ مبكرة، أتت على بقايا براءة وفرح، كانت هويةً أولى لروحه التي لم تعد صافية، كما يجدر بها أن تكون. هجمت الخشونة والفظاظة والجلافة على سني طفولته التي لم تتجاوز تسع سنوات في أحسن تقدير. يتطلع في وجوه الناس غير المقبلين على الشراء بنفاذ صبر، يتأمل الصغار بملابسهم المكوية النظيفة، ووجناتهم المتوردة، حاملين مشترياتهم من الألعاب ببهجةٍ قصوى، مصاحبين آباءهم المكترثين، وأمهاتهم الخائفات عليهم من قطع الشارع، مستقرين آمنين محميين، يخصّهم بنظرات غيرة وحقد تشي بمرارةٍ، تنمو على  مهلها، وقد غزا همٌّ وغمٌّ وتعبٌ وأسى وغضبٌ ملامحه الصغيرة التي كبرت، قبل الأوان بكثير. كان يصرخ بأعلى صوته المبحوح المجرّح المتوتر، منادياً على بضاعته، محاولاً فرض حضوره في صخب السوق المتوحش العابق برائحة السمك النفاذة، وأقفاص الحمام والأرانب والسلاحف والعصافير الملونة، مجاوراً سيدةً سبعينيةً، هدّها التعب، تفترش الأرض أمام كومة عروق بقدونس، مبتلة بندى الصباح، مطمئنة إلى نفاذ (البقدونسات) قبل انتصاف النهار، مستعيناً بأوتار حنجرة غضةٍ، أرهقها النداء، سعياً إلى لفت انتباه المارة، المنهمكين في شؤونهم الخاصة، مغرياً إياهم بأسعاره المتهاودة، مؤكداً، بصلف  التجار، جودة بضاعته غير الجيدة على الإطلاق.
لم اعتبر نفسي ضحية أي عملية احتيال، حين ابتعت منه عن سابق إصرار وتصميم وترصد كمية من المعجون الملون الخاص بلعب الأطفال، الكريه الرائحة العجيب البنية، الله وحده يعلم من أين يأتون بمثلها من كراكيب بالغة الضرر. كنت على يقين أن مصير هذه الصفقة البائسة سوف يكون، في أول حاويةٍ تصادفني، وذلك حرصاً على سلامة أطفال العائلة. على الرغم من تأكيدات البائع الصغير أن المعجون أصلي ونخب أول، وهو الذي ادّعى أن اسمه أحمد، ورفض الإفصاح عن اسم العائلة، مؤكدا أن ذلك (مش شغلي)، مبديا الضيق من أسئلتي المزعجة، وقد حذره من مغبة الإجابة معلمه الذي لا يتعدى عمره بدوره ستة عشر عاماً، حداً أعلى، قائلاً بحدة: (دير بالك شكلها صحفية)، وأضاف موجها الحديث لي، بحزم وثقة الخبير ابن السوق المتمرس: ممنوع التصوير. علماً أنه لم يكن بحوزتي، حينها، أي كاميرا أو موبايل من أي نوع. رد المعلم الصغير، بسخريةٍ مريرة، على سؤالي عن المدرسة: المدرسة (مش لأشكالنا يا خالتي)، وأردف بالنبرة الواثقة ذاتها أن مستخدمه أحمد (مش نافع) في المدرسة، وصل إلى الصف الخامس (بالغصب). لذلك قرر والده الذي يعمل (بنشرجي) أن يخرجه من المدرسة، ليساعد في إعالة إخوته الثمانية. أفاد الصغير أحمد بأن يوميته تبلغ دينارين أردنيين، وأنه تقلب في العمل في بسطات عدة، وتعرض للغش والاحتيال من أصحاب البسطات الذين اعتادوا أكل عرقه، قبل أن يستقر به الحال، في تلك الزاوية، تحت إمرة المعلم الحالي الصبي الذي يمت بصلة قرابة بعيدة لأبيه، يقبعون هناك نهاراتٍ، حيث تتزاحم الأقدام. أصر أحمد على أنه لا يشتاق إلى المدرسة، ولا يرغب بالعودة إليها، تحت أي ظرف، لأنه على حد قوله (شبع ضرب ومسبات!)، وهو المتيقن من أنه كسلان وخائب، ولن يفلح، أبداً، كما لقنه معلموه مربو الأجيال! الذين يفهمون أكثر منه. لذلك، فإنه يرى أن الخيار الوحيد المتاح هو نبذ قاعة الدرس، لكي يسعى، بخطوته الطفلة، في مناكبها. بحزنٍ كثير، ودّعت الصغير أحمد الذي تناسى اسمه، وأنكره. من يدري؟ لعل الاسم ضاع حقاً في غمرة النبش عن أسباب الحياة، هناك في قعر المدينة غير الرحيمة. 

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.