ملحمة الرز بحليب

ملحمة الرز بحليب

21 اغسطس 2020
+ الخط -

بما أنني، أنا أخوكم أبو المراديس، مسؤول عن تنظيم سهرة الإمتاع والمؤانسة من الناحية الأدبية، والصحافية، فقد اتجهت أنظار السامرين إليَّ بعدما فرغ أبو الجود من رواية حكايته الرائعة عن حادثة الرز بحليب والخرجية.. ولقد بهرتنا، بشكل خاص، حكاية قطعة النقود المعدنية التي وقعت من والده على الأرض فطاش صوابه، لأنه، كما عقب أبو الجود، طوال عمره لم يوفر أكثر من هذه القطعة المعدنية من فئة الفرنكين (عشرة قروش).

قلت للصديقات والأصدقاء الحاضرين في السهرة:

- إنتوا بتعرفوا طبيعة سهرتنا. نحن منكون عم نحكي سيرة، بتطلع معنا حكاية حلوة. منتوقف عن السيرة الأولانية، ومنصغي للحكاية الجديدة. وطبعاً ما في مشكلة، المهم نستمتع ونستأنس.

عقب كمال قائلاً:

- شكراً لصديقنا أبو المراديس. أنا كنت بدي قول إنه اللي سمعناه من أبو الجود مو مجرد حكاية، وإنما هوي لوحة حكائية كوميدية بارعة رسمها بطريقة ما بتقل روعة عن الرسوم الكاريكاتيرية المتحركة اللي أبدعها "والت ديزني".

أبو جهاد: مين هاد دزني؟

كمال: والت ديزني المبدع اللي اخترع شخصيات ميكي ماوس وبطوط، والنقاد بيعتبروه من أهم منتجي الرسوم المتحركة الكوميدية في القرن العشرين.

أبو محمد: يا أستاذ كمال، نحن معظمنا ما منفهم بهاي الشغلات، فإذا بتتكرم اشرح لنا أشو عمل أبو الجود حتى إنته عم تشبهه بهادا تبع الرسمات العالمية؟

كمال: ماشي. أنا ممكن إشرح لكم شلون بينكتب السيناريو تبع مشهد الرز بحليب والخرجية اللي قدمه أبو الجود. منقول في السيناريو:

المشهد رقم (كذا):

أبو عبد المجيد وأم عبد المجيد جالسان يتناولان الرز بحليب من صحنين زجاجيين، يبدو عليهما السرور. يدخل الفتى عبد المجيد (الملقب أبو الجود- 13 سنة، ولد فقير مهلهل كأبويه) يخاطب والده:

- ياب أنا من زمان ما أخدت خرجية. عطيني ليرة.

أبو عبد المجيد يطلق صفرة طويلة لأجل التعجب. لقطة بانورامية (pan.) إلى النافذة المطلة على أرض الديار حيث حَمَامات ينقرن الحب، الحَمَامات يسمعن الصفير فيفزعن ويطرن، عودة إلى مجلس أبو عبد المجيد وزوجته، يقول لابنه:

- ما بدي إكسر خاطرك، راح أعطيك خرجية. بس مو ليرة. خليك واقعي يا إبني.

ويمد الأب يده إلى جيب السروال. يظهر أن الجيب فارغ، فاليد تبحث عن شيء ما، وفجأة، تسقط قطعة معدنية صفراء صغيرة من فتحة الجيب على الأرض، تدرج باتجاه العتبة، أنظار الأب والأم والولد تتبعها، الأب يقف بسرعة، يركض وراء القطعة المعدنية لكي يقبض عليها، تصطدم قدمُه بصحن الرز بحليب، السائل الأبيض اللزج ينقذف بفعل القوة النابذة إلى حضن الأم، الأم تصيح:

- ولي على قامتي، عبيتني رز بحليب.

وتمسك مقدمةَ ثوبها بيديها، ترشقه إلى خارج حضنها، ينزل الرز بحليب على وجه أبو الجود، يغمض عينيه ويصيح: أخ. ويبدأ بمسح الرز بحليب عن عينيه، فيصبح وجهه كله مدهوناً بالسائل اللزج. (ضحك) قطع. نهاية المشهد.

بهرتنا، بشكل خاص، حكاية قطعة النقود المعدنية التي وقعت من والده على الأرض فطاش صوابه

أبو جهاد: يا ريت لو بقي الرز الحليب بعينه. مستاهل، يعني ما بيصير بلا ما ياخد خرجية من هالفقير أبوه؟

أبو الجود: مو بس بيصير، صار. لأنه أبوي بعد هالقصة زعل مني، وكمش الفرنكين ورجعهم على جيب الشنتيان. وقال لي إنه الحق علي، لولا طلبت خرجية ما كان انكب الرز بحليب. وصار يصرخ على أمي، وقال لها إنه هيي المسؤولة عن كل شي صار. المسكينة أمي ما ردت عليه، لأنه ما في حدا في الدنيا بيعرف شلون هيي مسؤولة. ولا حتى أبوي بيعرف.

أبو زاهر: أنا عندي رأي في هالموضوع. إذا بتسمحوا لي.

اتجهت أنظارنا إلى أبو زاهر، فقال وهو يخفي ابتسامة عذبة:

- علمياً الجنين بيتشكل من خلال تلاقح النطفة الخاصة بوالد أبو الجود مع البويضة الخاصة بوالدته، وهون بتلعب الجينات الوراثية دورها في تحديد طبائع الولد اللي راح ينتج عن هالتلاقح. الوالد متأكد إنه جيناته الوراثية نضيفة تماماً، مو ممكن يطلع منها ولد بيقول لأبوه (عطيني خرجية)، بيبقى إنه أبو الجود لما قال لأبوه (عطيني خرجية) أكيد طالع لسلالة أمه. خاي أبو الجود. يا ريت تتذكر، كان في حدا من خوالك بيطلب خرجية من أبوه؟

ضحك الحاضرون ضحكاً صافياً، وقال أبو الجود:

- أي نعم، في. وعلى ذكر أخوالي، كان بيناتهم واحد اسمه "خالد"، كان متطوع في الجيش، ووصل لرتبة نقيب، وكان مستني يترفع لرتبة رائد، وما شفنا غير جاية ع الضيعة، وحالق شعره ع الصفر، وعم يعيش معمر القذافي وصدام حسين. وصاروا أهل الضيعة كلما شافوه يهربوا منه. لأنه كلامه ممكن يعمل للي بيسمعوا سين وجيم. وصار يسوح في أزقة الضيعة طول النهار، ويرجع ع البيت المسا، يتعشى وينام. ومرة من المرات كان جاية عالبيت بأمان الرحمن، ومن لما دخل ع غرفة الجلوس ركض جدي ع الباب، وقفله من جوه، وسحب القشاط الحموي العريض اللي كان يلفه على خصره، وهجم عليه وصار يضربه. خالي صار يتدخل على جدي ويسأله: ليش عم تضربني؟ قال جدي: لأنك جحش ومنحوس، بدل ما يخبروني إنهم رفعوك لرتبة رائد جاييني عم تطوطح بإيديك وحالق شعرك وعم تعيش صدام والقذافي.. احكي لي لأشوف، أيش صاير معك؟

حنان: أنا عندي تعليقين. أول شي بدي أقول إني كتير مبسوطة لأني صرت إسهر معكن. لما كنا نحن النسوان نسهر لحالنا بعمرنا ما سمعنا هيك حكي. وتاني شي، ومع احترامي للكل، حكايات أبو الجود أحلى شي.

أم الجود: لا تصدقيه يو خيت. تلات أرباع قصصه ما إلها أساس.

كمال: إذا ما إلها أساس أحسن. لأن هالشي معناته إنه مبدع، بيألف قصص وبيحكيها.

أبو محمد: خلونا نعرف أيش صار مع خاله خالد. تفضل أبو الجود.  

أبو الجود: بحكي لكم قصته، بشرط تسعفونا بأبريق شاي. بصراحة أنا ريقي نشف.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...