مقطع من المعارضة في ظل حافظ الأسد

مقطع من المعارضة في ظل حافظ الأسد

15 اغسطس 2019
+ الخط -
شهدت سورية، مع بداية الربع الأخير من القرن الماضي، وبالتحديد بعد التدخل العسكري السوري في لبنان في يونيو/ حزيران 1976، بروز تنظيمين شيوعيين معارضين لنظام حافظ الأسد، الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، ورابطة العمل الشيوعي التي أصبحت حزب العمل الشيوعي في مؤتمرها الأول والأخير في أغسطس/ آب 1981 (سنقول الرابطة للدلالة على الرابطة والحزب). 
لم يكن نظام الأسد يتساهل مع أي نشاط سياسي معارض، لا سيما إذا كان نشاطاً منظماً. ولا غرابة في الأمر، فالنظام الذي يعطي للمجتمع المحلي وللعالم صورة تقول إن الشعب متمسّك برئيسه، ويختاره بنسبة تزيد عن 99%، بحسب الاستفتاءات، سوف يحرص على إبادة أي نشاط سياسي معارض. يصبح هذا الربط أكثر وضوحاً، إذا علمنا أن أي معارضة سياسية لنظام الأسد كانت تترجم في ذهن أهل النظام، والأمنيين منهم خصوصا، على أنها معارضة للرئيس، فكان عناصر وضباط الأمن يصفون الشخص المعارض أنه "ضد الرئيس".
القمع الحثيث لكل صوت معارض، بصرف النظر عن لون هذا الصوت أو مضمونه، يعيق البحث في الفروق بين الأصوات المعارضة من حيث ملاءمتها وإمكاناتها على اختراق المجتمع وتحقيق استجابات، ذلك أن كل هذه الأصوات تتعرّض لقوة قمع ساحقة، تمنع معرفة الجدوى السياسية لهذا الصوت أو ذاك. مع أخذ هذه الحقيقة بالاعتبار، تتناول هذه السطور ما يميز هذين التنظيمين الشيوعيين اللذين شكلا المعارضة الشيوعية لنظام الأسد في سورية.
على الرغم من اجتماع التنظيمين المذكورين على معارضة نظام الأسد، وعلى الأساس النظري الماركسي، إلا أنهما عرضا في الواقع السياسي السوري، تنويعين مختلفين إلى حد بعيد في
العمل التنظيمي والتصورات السياسية. يعود التمايز، في جزء منه، إلى ظروف النشأة، ففي حين كان "المكتب السياسي" تغييراً مستجداً في مسار جزء من جسد شيوعي قديم، نحا به تدريجياً باتجاه معارضة جدية لنظام الأسد منذ صيف 1976، كانت الرابطة نشوءاً شيوعياً جديداً، وكانت معارضة للنظام بجذرية تامة منذ البداية. إلى هذا، تضاف فروق أخرى مهمة، مثل غلبة العنصر الشاب في الرابطة، (كانت الغالبية العظمى من المؤسسين ما دون سن الثلاثين عاماً)، ودخول عناصر الرابطة إلى الفكر الشيوعي قادمين، في الغالب، من تنظيماتٍ قومية، وهذا ما جعلهم يميلون إلى "الأصولية" في تعاملهم مع الموضوع النظري، كعادة من يأتون متحمّسين إلى فكر أو انتماء جديد، متحرّرين من العوالق النفسية والروتين الذهني والانحيازات الضيقة التي ينتجها زمن الانتماء الطويل.
غلب النزوع النظري لدى شباب الرابطة، فقد كانت النظرية و"تقديم إجابات ثورية على أسئلة الواقع"، الشغل الأساسي الذي انهمكت فيه الحلقات الماركسية أكثر من خمس سنوات قبل اجتماع غالبية الحلقات على تشكيل رابطة العمل الشيوعي في أغسطس/ آب 1976. القيمة الكبرى التي أولتها الرابطة لهذا الجانب تدل على وجود قناعة بسيطة، تقول إن تقديم الإجابة النظرية الصحيحة على "أسئلة الواقع" يضع المشكلة الواقعية على طريق الحل، إنْ لم نقل يعادل حلها. لهذا غرق شباب الحلقات الماركسية، ثم الرابطة، في الكتب، غير أن الكتب التي غاص فيها هؤلاء الشباب لم يكن من شأنها سوى أن تزيد غربة الرابطة عن واقعها، لأنها افتقدت الإبداع النظري الذي يحيل الثقافة الكتبية إلى أداة استقراء، وليس إلى نموذج للتطبيق. على هذا، شكلت "الثقافة" عائقاً عن فهم المجتمع، وأصبح حجم محفوظات الرفيق من النصوص الحمراء من الأشياء التي تزيد في قيمته واعتباره. كان على الواقع أن يشبه الكتب، في آلية ذهنية تماثل، ولو من بعيد، المساعي الإسلامية المتطرّفة إلى حبس الواقع في النص.
على هذا، كان الواقع ينأى أكثر عن شباب الرابطة، فيما هم يلاحقونه "نظرياً". وعلى طريق هذا "النقاء" النظري، كان يرى هؤلاء أن بناء الحزب الثوري هو فقط ما ينقص المجتمع، لكي يثور وينفض عنه التخلف والبؤس والهزيمة الوطنية.. إلخ التي ترتبط جميعاً بسيطرة البرجوازية وسيادة نمط إنتاج رأسمالي متخلف. اجتهد شباب الرابطة على هذا الطريق فعلاً، وأظهروا مستوىً غير مسبوق من الكفاحية والتضحية والإبداع العملي الدعاوي والتنظيمي بشكل خاص. وحاولوا الوصول إلى الجمهور، وكسر الحصار الأمني المفروض عليهم، بالتحدّي والإصرار على إصدار صحيفتهم المركزية "الراية الحمراء"، وبإصدار نشرة شعبية باسم "النداء الشعبي"، وبالمساهمة في تشكيل اللجان الشعبية بوصفها حالة تنظيمية وسيطة بين الحزب والجماهير.. إلخ. كل هذا للوصول إلى حالة الحزب الجماهيري التي لطالما حلمت بها الرابطة، لكي تكون حزب "الثورة القادمة". يمكن تلخيص تجربة الرابطة بأنها أصولية نظرية مع كفاحية عالية واجتهاد دعاوي وتنظيمي مهم.
على العكس من الانشغال النظري والنزوع "الأصولي" لدى الرابطة، مال "المكتب السياسي"، تحت تأثير العجز الشيوعي السوري المستمر، والارتهان المزمن للسوفييت والتدهور الملموس 
والمتسارع في أحوال الأمة (هزيمة 1967، سقوط يسار البعث في 1970، فشل حرب تشرين، بداية افتراق مصر عن المسار العربي.. إلخ)، كما تحت تأثير تقدم سن الكادر الأساسي في الحزب، إلى نوع من الواقعية المقهورة، والتي هي ترجمة عملية للإقرار بالعجز عن تغيير الواقع مع الرغبة الشديدة في التغيير، في الوقت نفسه. مضمون هذا النوع من الواقعية ليس الانحياز إلى الواقع، وكشف تناقضات وآليات عمل ونقاط اختراق واقعية ممكنة، بما يخدم بناء الحزب، وتعزيز وجوده السياسي والجماهيري.. إلخ، بل، بالأحرى، التخلي عن فكرة إمكانية أن يتحول الحزب إلى قوة جماهيرية قادرة على التغيير، والتعويل، بدلاً من ذلك، على قوى تغيير أخرى تمتلك القدرة. هذا ما جعلنا نسميها "واقعية مقهورة". كان هذا في أساس الانفتاح الذي أبداه (المكتب السياسي) على القوى السياسية الإسلامية، أو اليمينية، وفي أساس قبول علاقة ما مع أنظمة معادية للنظام السوري، وإن كانت نسخة مطابقة له.
في المستوى التنظيمي، كان هذا يعني خفض مستوى النشاط بغرض الحفاظ على الذات، ليس لكي نتطوّر ونشكل عنصراً فاعلاً في قوة التغيير المأمول، فهذا ما لا يمكن تحقيقه، وفق النظرة "الواقعية" للحزب، بل لكي نكون أحياء بما يكفي "لحضور المولد" الذي سيكون من صنع غيرنا.
إذا كان نظام الأسد قد استطاع تحييد المكتب السياسي بحملة اعتقالاتٍ أساسية، واحدة شنها على الحزب في خريف 1980، فقد احتاج تحييد الرابطة إلى عشر حملات اعتقال كثيفة استمر بعضها ما يقارب السنة، فضلاً عن الاعتقالات المتفرقة التي لم تتوقف طوال عمر التجربة التي استمرت أكثر من ستة عشر عاماً. لا الرابطة "النظرية" استطاعت، بالمسار الذي اختارته وبالكفاحية العالية التي تميزت بها، أن تخترق الحصار وتصل إلى حلمها بأن تشكل حزباً جماهيرياً ثورياً، فقد انتهت إلى السجون والمنافي والقبور، ولا "المكتب السياسي" (الواقعي) استطاع في خياره الخاص أن ينجو من المصير نفسه. كلاهما حاول وانتهى من دون أن يصل قوله إلى أسماع الناس.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.